شعرة واهية جدا ، حالت دون أن نقرأ " حواديت الآخر " رواية " حسام فخر " الأخيرة كمجموعة أو متتالية قصصية .. فالحكايات التي تنتظم الكتاب التأمت في عقد سردي واحد ، واكتسب مجموع البني الفردانية لكل حكاية بنية مركزية دورتها في فلكها، مما جعل قراءتها كعمل روائي أمرا محتملا مع الاحتفاظ بإمكانية قراءتها كحكايات .
نحن أمام " حكاية إطار " تتولد منها حكايات فرعية. تحيلنا البنية دون مواربة لألف ليلة وليلة .. كما يحيلنا المكان البطل في الرواية ، وهو " مدينة النحاس "، والذي يستعير نظيره في الليالي متناصا معه ومحاورا إياه . حتي طبيعة العلاقة بين الراوي و" الآخر " اللذين يتخلق النص بين خطابيهما تكاد تكون استعادة لحكاية السندباد وشيخ البحر في الليالي أيضا ، حيث يستريح" الآخر"علي كتفيه ويطبق بساقين من حديد علي جنبيه. الرواية إذن بداءة تكاد تكون معارضة عصرية لنص من الموروث.. بل إنها تستعير لغته في مواضع شتي، خاصة تلك التي تمثل حوار الآخر، القادم من مكان مجهول ومن زمن مغيب مفارق ليقيم حوارا مع الراوي العصري. إن أول عبارات للآخر هي : " لقد عشت مغامرات يشيب لهولها الولدان وذلك في مدينة النحاس والله وحده يعلم كيف خرجت منها حيا، رأيت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وأريد الآن أن أكتب ما رأيت، غير أني تعبان منهك ووقع اختياري عليك. سأركب كتفيك وأستعير مخك لثمانية أيام وسبع ليال، سأخبرك بما جري لي وأنت ستكتبه ".
الشفاهي متمثلا في الآخر يهيمن علي الكتابي الذي يمثله الراوي في أولي عتبات الدلالة . الآخر يحط علي الراوي مطالبا إياه أو آمرا إن شئنا الدقة بكتابة حكايته الخاصة، حكايته الشفهية، كي تخلد وتهزم النسيان والطمس. خطاب الآخر مسجوع، عامر بالزخارف، عتيق البلاغة ومثقل بالمجازات.. أما خطاب الراوي فلغته تداولية، بسيطة، مشهدية وخالية من الزخرف . هذا صراع أول .. لا نعرف لمن ستؤول فيه الغلبة في نهاية المطاف. حسب " ميشيل فوكو "، في "وظيفة المثقف السياسية " فإن " المهزومين ليسوا عديمي لغة، ولكنهم لا يتحدثون لغة نحن مضطرون لأن نصغي إليها، لأنهم مستعبدون ". ربما يوائم هذا المنطق عجز لغة الراوي علي عصريتها حيال قدرة لغة الآخر، علي مفارقتها. هنا يكمن سؤال لآخر، جوهري في الرواية بامتداد صفحاته، هو سؤال عجز الإنسان المعاصر. الآخر هو ابن مدينة النحاس الخيالية، المفارقة للواقع والتي تخاصم شروط المحاكاة ، والمنطق بالذات . الراوي ابن المدينة الحديثة المعممة في النص وغير المسماة، مثله تماما وغير القادر علي اعتناق قناعة مفارقة.
مفارقة أولي ستبرز، في علاقة الرواية بألف ليلة .. تخص دور من يحكي الحكاية وبالمقابل دور من يتلقي الحكي . شهرزاد كانت تحكي لتنجو من الموت. في كل حكايات ألف ليلة الغلبة، والقوة، لمن ينصت وليست لمن يروي. المنصت هو دائما صاحب السلطة وكاتب المصير، والحكاية طريق لتفادي الموت عند من يملكها. الأمر هنا معكوس تماما.. صاحب الحكاية هو صاحب القوة ومن يستمع عاجز .
> > >
الرواية تقع في جزءين ، فاصلين إشاريين يقسمانها إلي شطرين رئيسيين . في الجزء الأول يكتب الراوي الرحلة كما يرويها " الآخر " ، يتمثلها ذهنيا فحسب ويتلقاها من منتجها ليخطها .. أما الجزء الثاني والذي يحتل أكثر من ثلثي النص فيبدأ الراوي فيه رحلته الخاصة، ليحكي هو. يترتب علي ذلك تغيير جوهري في وضعية الراوي. تنتفي بشكل ما وساطة الراوي بين صاحب النص ومن سيقرأه بعد ذلك. إن الراوي في الجزء الأول يبدو بلا موضع بين طرفي النص المسرود ( منتجه ومستهلكه ).. بينما يتحول بعد ذلك لمنتج أكيد .
لماذا قرر الراوي أن يخوض الرحلة بنفسه ؟.. السؤال جوهري، وإجابته كما يقدمها النص : البحث عن الآخر ! . ربما يبدو ذلك محيرا، أن تبحث ذات عما تهرب منه. الدافع أيضا يبدو غير معقول.. فبعد رحيل " الآخر" في نهاية الجزء الأول، يستجيب الراوي مع انطلاق الجزء الثاني ل " آخر " جديد.. هو هذه المرة محض صوت في المنام . صوت يقض مضجع الراوي، يؤنبه لتخليه عن " الآخر " وعدم سؤاله عنه منذ اختفائه ويأمره بالبحث عنه والوصول إليه . الصوت هذه المرة يبدو تمثيلا كاملا للمطلق ، واستجابة الراوي المسلمة له تحيلنا لتأويل يقضي بأن هذا الصوت علي نحو أو آخر صوت الله. يبدأ الراوي رحلته للبحث عن الآخر، بينما هو في الحقيقة يبحث عن ذاته. لماذا يكتشف الراوي ذاته عبر اكتشاف الآخر ؟ لماذا يتخذ قراره المصيري وفق إرادة مفارقة لم تنبع من داخله ؟ .. إنه سؤال آخر يفارق نمط البطل الروائي الحديث، الذي لا ينطلق سوي من مساحة الشك اللصيقة به، وينفي الأصوات الكلية عن مدار رؤاه . عجز كامل يحيل البطل هنا لشخصية قدرية. ينتفي عنه وجوده النسبي واعتداده بقيمة الشك، كأنه يبحث عن " مخلٌِص "، ويصير محض مجسيٌّر: ( أنا مكلف بالبحث عن شخص ) هكذا تتجسد المهمة من وجهة نظر الراوي نفسه.
> > >
المعرفة، حسب بنية الرواية، تستلزم رحلة خطية، يحيل فيها كل مكان ولحظة زمنية إلي ماهو لاحق ليس فقط في السياق التعاقبي، لكن في الإيغال المعرفي باتجاه الكشف. مع كل خطوة هناك اقتراب أكبر من إمكانية إدراك الحقيقة.. وكل لحظة فائتة هي بالضرورة أقل وضوحا. الراوي يتنقل من مكان لأخر بحثا عن الآخر الذي يتماهي معه لحظة بعد أخري وفي كل محطة هناك حكاية جديدة. حكاية تؤكد وجود الآخر حتي لو أعلنت كل الشواهد أن ذلك غير صحيح. غير أن الراوي في مرحلة من بحثه يجد نفسه أمام حتمية صعبة: أن يفقد روحه. هذا المعني الميتافيزيقي تجري ترجمته في الرواية إلي حدث حقيقي. تفشل محاولة الراوي في الحصول علي روح جديدة بدلا من روحه المهترئة .. ويخبره " الحكيم " بسبب الفشل: " كانت الروح الجديدة علي وشك الحلول فيك، ولكنك أردت أن تجمع القديم والجديد في الآن عينه، وهما ضدان لا يجتمعان فأضعت الاثنين.. ولم يعد أمامك إلا أن تستأنف سعيك اليائس ". المدهش هنا أن الراوي رغب في استبدال روحه بروح " الآخر " تحديدا .. وتقمصه بالفعل فور إجراء الجراحة، فعندما يسأله الحكيم عن اسمه يقول : اسمي الآخر .
المعرفة إذن، وفق النص، لا تتم إلا بالإقصاء، بالاستبعاد، وهو ما يعجز عنه الراوي. لنلاحظ أيضا أن لغة الراوي تقترب من لغة الآخر كلما تقدمت الرحلة حتي يصير خطابه في النهاية هو نفسه خطاب الآخر، بمفرداته وتكآته البلاغية.
حتي عندما يقرر الراوي استرداد روحه، تسرق منه .. وكأن مصيرها الوحيد هو أن تغادره .
قرب النهاية يقابل الراوي " الآخر " من جديد.. لتنقلب الآية هذه المرة، وليصير التوحد نهائيا. الراوي يطلب منه ألا يفارقه، وعندما يبدي الآخر اندهاشه، يقول الراوي في عبارة " مورالية " تلخص جانبا ضخما من مغزي الرحلة: ( أما أنني لا أطيقك، فهذا أمر مفروغ منه وحق لا مراء فيه .. كل مرة اقتحمت فيها حياتي ارتبكت أموري، واختلطت مواعيدي، ونكثت بوعودي، وخربت علاقاتي بكل البشر .. لكنني أحببت الحواديت وسعدت بسماعها.. وأعتقد أن ما يزال عندك الكثير منها، وأريد حقا أن أن أدونها لك كما كانت الحال في أول مرة .. أرجوك .. ).
الحكي كغاية يصير هو الوجود ذاته، الحكي كذب، غير أن الوجود كما يمكن أن نجربه ليس بالضرورة حقيقيا وقابلا للتصديق. إن العالم في " حواديت الآخر " يبدو تاليا في وجوده علي صورته كحفنة حكايات. وما " رآه " الراوي لم ينقض في لحظة ما " روي له " عن مدينة النحاس .. صورة العالم كما يقدمها الحكي تكاد تطابق جوهره كما تخبره الذات . وتغدو " الكتابة " وفق هذا المنطق كمنجز متقدم في مسيرة الحضارة سجنا للوجود، ينتزعه من رحابة التحريف قدر ما يضمن له الاستمرارية. صفقة لابد منها، البقاء لابد له من سياق اتفاقي يخلقه ما هو مدوٌّن.
> > >
المنطق الفني للرواية يعمد إلي خلق ( بارودي ) أو محاكاة ساخرة للعالم الحديث. إن "مدينة النحاس " تبدو هنا كما لو كانت مدينة افتراضية علي شاشة كمبيوتر، تملك مواصفات ماضوية أكيدة لكن شروطها الفعلية تنتمي لمعرفة ما بعد الحداثة.
إنه »game « قادر علي توريطك فيه وبث الرعب في أوصالك، لكنه ينتهي في لحظة ليبدأ من جديد في مرة تالية، ومن نقطة الصفر. يبرر ذلك التأكيد في نهاية الرواية علي أنها " تمت حتي إشعار آخر "، هي تامة في هذه اللحظة لكن ليست تامة علي إطلاقها.
في أحد المشاهد الدالة، يكتب الراوي " باس وورد " ليدخل المغارة: ( جلست علي مقعد مريح أمام باب المغارة. نقرت علي الزر الأيسر مرتين، فطلع لي ملكان سألاني عن اسمي وديني وكتابي وطلبا مني كلمة السر. عندما قدمتها انفتح أمامي شريط من نور برقت تحته كلمات: من فضلك اكتب اسم الشخص الذي تبحث عنه ثم اطلق السهم القابع علي اليمين . بحثت عن الحروف علي المفاتيح المصفوفة ..... إذا كان الشخص الذي تبحث عنه موجودا في هذه القائمة، انقر علي اسمه مرتين وسنوافيك بالمعلومات والتعليمات.. وإذا لم يكن موجودا فنرجو منك تضييق نطاق البحث .. ) . تتري مثل هذه الأداءات " الرقمية " بامتداد النص، وكأن مدينة النحاس تحولت إلي مكان ماضوي بشروط مستقبلية . هذه " الخفة " في تناول ما تم توارثه باعتباره ثقيلا ولاحظ الدلالة المرجعية لمفردة " النحاس" نفسها تحيل الوجود نفسه إلي واقع افتراضي. محض نسخة من بين ملايين النسخ المتاحة والقابلة مرة بعد أخري للتعديل والتحديث. يتسق الوجود وفق هذا التصور مع ما أسلفته عن حقيقة الوجود حيال كذب الحكي . الوجود نفسه لا يمنحك إلا صورته ، تماما كما لا يمنحك الحكي إلا صورة عما يحكي عنه. إنه سؤال ما بعد حداثي بامتياز: سؤال الفرادة في تحولها إلي copy تصير من خلاله الأيقونة محض اسطوانة مدمجة.
مدينة النحاس تتعالق مع هذه الشروط، مقدمة ما هو أبعد من سؤال امتزاج الواقع بالخيال ، لأنه لا يشكك فقط في ماهية المدرك أمام غير القابل للإدراك المجرد، بل يفكك الشروط الأساسية للإيهام كلما أسس لها .
مدينة النحاس هي إذن وفق تأويلي شخصي المكان الذي تعبره الأزمنة، وقد تجتمع فيه في لحظة، متجاورة، كل لحظة بشرطها المفارق للحظة المتاخمة لها.
مدينة هي الوجود، ووجود هو برمته " آخر " يحكي لك مالم تر، ويجبرك علي كتابته ليقرأه لاحق ! .
طارق إمام
هناك تعليق واحد:
مدينة هي الوجود، ووجود هو برمته " آخر " يحكي لك مالم تر، ويجبرك علي كتابته ليقرأه لاحق ! .
رواية جميلة
شكرا لك علي جهدك
وربنا يعينك علي تزويدنا بهذه الابداعات
تحياتي
وكل سنة وانت بكل خير
إرسال تعليق