الأربعاء، 17 ديسمبر 2008

عندما يتحول العالم‮ ‬إلي‮" ‬واقع افتراضي‮":‬ الحكاية تسبق الوجود‮ !


شعرة واهية جدا‮ ‬،‮ ‬حالت دون أن نقرأ‮ " ‬حواديت الآخر‮ " ‬ رواية‮ " ‬حسام فخر‮ " ‬الأخيرة كمجموعة أو متتالية قصصية‮ .. ‬فالحكايات التي تنتظم الكتاب التأمت في عقد سردي واحد‮ ‬،‮ ‬واكتسب مجموع البني الفردانية لكل حكاية بنية مركزية دورتها في فلكها،‮ ‬مما جعل قراءتها كعمل روائي أمرا‮ ‬محتملا‮ ‬مع الاحتفاظ بإمكانية قراءتها كحكايات‮ . ‬
‮ ‬نحن أمام‮ " ‬حكاية إطار‮ " ‬تتولد منها حكايات فرعية‮. ‬تحيلنا البنية دون مواربة لألف ليلة وليلة‮ .. ‬كما يحيلنا المكان البطل في الرواية‮ ‬،‮ ‬وهو‮ " ‬مدينة النحاس‮ "‬،‮ ‬والذي يستعير نظيره في الليالي متناصا‮ ‬معه ومحاورا‮ ‬إياه‮ . ‬حتي طبيعة العلاقة بين الراوي و‮" ‬الآخر‮ " ‬ اللذين يتخلق النص بين خطابيهما تكاد تكون استعادة لحكاية السندباد وشيخ البحر في الليالي أيضا‮ ‬،‮ ‬حيث يستريح‮" ‬الآخر"علي كتفيه ويطبق بساقين من حديد علي جنبيه‮. ‬الرواية إذن بداءة تكاد تكون معارضة عصرية لنص من الموروث‮.. ‬بل إنها تستعير لغته في مواضع شتي،‮ ‬خاصة تلك التي تمثل حوار الآخر،‮ ‬القادم من مكان مجهول ومن زمن مغيب مفارق ليقيم حوارا‮ ‬مع الراوي العصري‮. ‬إن أول عبارات للآخر هي‮ : " ‬لقد عشت مغامرات يشيب لهولها الولدان وذلك في مدينة النحاس والله وحده يعلم كيف خرجت منها حيا،‮ ‬رأيت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت‮ ‬،‮ ‬وأريد الآن أن أكتب ما رأيت،‮ ‬غير أني تعبان منهك ووقع اختياري عليك‮. ‬سأركب كتفيك وأستعير مخك لثمانية أيام وسبع ليال،‮ ‬سأخبرك بما جري لي وأنت ستكتبه‮ ".‬
‮ ‬الشفاهي متمثلا‮ ‬في الآخر يهيمن علي الكتابي الذي يمثله الراوي في أولي عتبات الدلالة‮ . ‬الآخر يحط علي الراوي مطالبا‮ ‬إياه أو آمرا‮ ‬إن شئنا الدقة بكتابة حكايته الخاصة،‮ ‬حكايته الشفهية،‮ ‬كي تخلد وتهزم النسيان والطمس‮. ‬خطاب الآخر مسجوع،‮ ‬عامر بالزخارف،‮ ‬عتيق البلاغة ومثقل بالمجازات‮.. ‬أما خطاب الراوي فلغته تداولية،‮ ‬بسيطة،‮ ‬مشهدية وخالية من الزخرف‮ . ‬هذا صراع‮ ‬أول‮ .. ‬لا نعرف لمن ستؤول فيه الغلبة في نهاية المطاف‮. ‬حسب‮ " ‬ميشيل فوكو‮ "‬،‮ ‬في‮ "‬وظيفة المثقف السياسية‮ " ‬فإن‮ " ‬المهزومين ليسوا عديمي لغة،‮ ‬ولكنهم لا يتحدثون لغة نحن مضطرون لأن نصغي إليها،‮ ‬لأنهم مستعبدون‮ ". ‬ربما يوائم هذا المنطق عجز لغة الراوي علي عصريتها حيال قدرة لغة الآخر،‮ ‬علي مفارقتها‮. ‬هنا يكمن سؤال لآخر،‮ ‬جوهري في الرواية بامتداد صفحاته،‮ ‬هو سؤال عجز الإنسان المعاصر‮. ‬الآخر هو ابن مدينة النحاس الخيالية،‮ ‬المفارقة للواقع والتي تخاصم شروط المحاكاة‮ ‬،‮ ‬والمنطق بالذات‮ . ‬الراوي ابن المدينة الحديثة المعممة في النص وغير المسماة،‮ ‬مثله تماما‮ ‬ وغير القادر علي اعتناق قناعة مفارقة‮.‬
‮ ‬مفارقة أولي ستبرز،‮ ‬في علاقة الرواية بألف ليلة‮ .. ‬تخص دور من يحكي الحكاية وبالمقابل دور من يتلقي الحكي‮ . ‬شهرزاد كانت تحكي لتنجو من الموت‮. ‬في كل حكايات ألف ليلة الغلبة،‮ ‬والقوة،‮ ‬لمن ينصت وليست لمن يروي‮. ‬المنصت هو دائما صاحب السلطة وكاتب المصير،‮ ‬والحكاية طريق لتفادي الموت عند من يملكها‮. ‬الأمر هنا معكوس تماما‮.. ‬صاحب الحكاية هو صاحب القوة ومن يستمع عاجز‮ . ‬
‮> > > ‬
‮ ‬الرواية تقع في جزءين‮ ‬،‮ ‬فاصلين إشاريين يقسمانها إلي شطرين رئيسيين‮ . ‬في الجزء الأول يكتب الراوي الرحلة كما يرويها‮ " ‬الآخر‮ " ‬،‮ ‬يتمثلها ذهنيا‮ ‬فحسب ويتلقاها من منتجها‮ ‬ليخطها‮ .. ‬أما الجزء الثاني والذي يحتل أكثر من ثلثي النص فيبدأ الراوي فيه رحلته الخاصة،‮ ‬ليحكي هو‮. ‬يترتب علي ذلك تغيير جوهري في وضعية الراوي‮. ‬تنتفي بشكل ما وساطة الراوي بين صاحب النص ومن سيقرأه بعد ذلك‮. ‬إن الراوي في الجزء الأول يبدو بلا موضع بين طرفي النص المسرود‮ ( ‬منتجه ومستهلكه‮ ).. ‬بينما يتحول بعد ذلك لمنتج أكيد‮ . ‬
‮ ‬لماذا قرر الراوي أن يخوض الرحلة بنفسه ؟‮.. ‬السؤال جوهري،‮ ‬وإجابته كما يقدمها النص‮ : ‬البحث عن الآخر‮ ! . ‬ربما يبدو ذلك محيرا،‮ ‬أن تبحث ذات عما تهرب منه‮. ‬الدافع أيضا‮ ‬يبدو‮ ‬غير معقول‮.. ‬فبعد رحيل‮ " ‬الآخر‮" ‬في نهاية الجزء الأول،‮ ‬يستجيب الراوي مع انطلاق الجزء الثاني ل‮ " ‬آخر‮ " ‬جديد‮.. ‬هو هذه المرة محض صوت في المنام‮ . ‬صوت يقض مضجع الراوي،‮ ‬يؤنبه لتخليه عن‮ " ‬الآخر‮ " ‬وعدم سؤاله عنه منذ اختفائه ويأمره بالبحث عنه والوصول إليه‮ . ‬الصوت هذه المرة يبدو تمثيلا‮ ‬كاملا‮ ‬للمطلق‮ ‬،‮ ‬واستجابة الراوي المسلمة‮ ‬له تحيلنا لتأويل يقضي بأن هذا الصوت علي نحو أو آخر صوت الله‮. ‬يبدأ الراوي رحلته للبحث عن الآخر،‮ ‬بينما هو في الحقيقة يبحث عن ذاته‮. ‬لماذا يكتشف الراوي ذاته عبر اكتشاف الآخر ؟ لماذا يتخذ قراره المصيري وفق إرادة مفارقة لم تنبع من داخله ؟‮ .. ‬إنه سؤال آخر يفارق نمط البطل الروائي الحديث،‮ ‬الذي لا ينطلق سوي من مساحة الشك اللصيقة به،‮ ‬وينفي الأصوات الكلية عن مدار رؤاه‮ . ‬عجز كامل يحيل البطل هنا لشخصية قدرية‮. ‬ينتفي عنه وجوده النسبي واعتداده بقيمة الشك،‮ ‬كأنه يبحث عن‮ " ‬مخلٌِص‮ "‬،‮ ‬ويصير محض مجسيٌّر‮: ( ‬أنا مكلف بالبحث عن شخص‮ ) ‬هكذا تتجسد المهمة من وجهة نظر الراوي نفسه‮.‬
‮> > > ‬
‮ ‬المعرفة،‮ ‬حسب بنية‮ ‬الرواية،‮ ‬تستلزم رحلة خطية،‮ ‬يحيل فيها كل مكان ولحظة زمنية إلي ماهو لاحق ليس فقط في السياق التعاقبي،‮ ‬لكن في الإيغال المعرفي باتجاه الكشف‮. ‬مع كل خطوة هناك اقتراب أكبر من إمكانية إدراك الحقيقة‮.. ‬وكل لحظة فائتة هي بالضرورة أقل وضوحا‮. ‬الراوي يتنقل من مكان لأخر بحثا‮ ‬عن الآخر الذي يتماهي معه لحظة بعد أخري وفي كل محطة هناك حكاية جديدة‮. ‬حكاية تؤكد وجود الآخر حتي لو أعلنت كل الشواهد أن ذلك‮ ‬غير صحيح‮. ‬غير أن الراوي في مرحلة من بحثه يجد نفسه أمام حتمية صعبة‮: ‬أن يفقد روحه‮. ‬هذا المعني الميتافيزيقي تجري ترجمته في الرواية‮ ‬إلي حدث حقيقي‮. ‬تفشل محاولة الراوي في الحصول علي روح جديدة بدلا‮ ‬من روحه المهترئة‮ .. ‬ويخبره‮ " ‬الحكيم‮ " ‬بسبب الفشل‮: " ‬كانت الروح الجديدة علي وشك الحلول فيك،‮ ‬ولكنك أردت أن تجمع القديم والجديد في الآن عينه،‮ ‬وهما ضدان لا يجتمعان فأضعت الاثنين‮.. ‬ولم يعد أمامك إلا أن تستأنف سعيك اليائس‮ ". ‬المدهش هنا أن الراوي رغب في استبدال روحه بروح‮ " ‬الآخر‮ " ‬تحديدا‮ .. ‬وتقمصه بالفعل فور إجراء الجراحة،‮ ‬فعندما يسأله الحكيم عن اسمه يقول‮ : ‬اسمي الآخر‮ .‬
‮ ‬المعرفة إذن،‮ ‬وفق النص،‮ ‬لا تتم إلا بالإقصاء،‮ ‬بالاستبعاد،‮ ‬وهو ما يعجز عنه الراوي‮. ‬لنلاحظ أيضا‮ ‬أن لغة الراوي تقترب من لغة الآخر كلما تقدمت الرحلة حتي يصير خطابه في النهاية هو نفسه خطاب الآخر،‮ ‬بمفرداته وتكآته البلاغية‮. ‬
‮ ‬حتي عندما يقرر الراوي استرداد روحه،‮ ‬تسرق منه‮ .. ‬وكأن مصيرها الوحيد هو أن تغادره‮ . ‬
‮ ‬قرب النهاية يقابل الراوي‮ " ‬الآخر‮ " ‬من جديد‮.. ‬لتنقلب الآية هذه المرة،‮ ‬وليصير التوحد نهائيا‮. ‬الراوي يطلب منه ألا يفارقه،‮ ‬وعندما يبدي الآخر اندهاشه،‮ ‬يقول الراوي في عبارة‮ " ‬مورالية‮ " ‬تلخص جانبا‮ ‬ضخما‮ ‬من مغزي الرحلة‮: ( ‬أما أنني لا أطيقك،‮ ‬فهذا أمر مفروغ‮ ‬منه وحق لا مراء فيه‮ .. ‬كل مرة اقتحمت فيها حياتي ارتبكت أموري،‮ ‬واختلطت مواعيدي،‮ ‬ونكثت بوعودي،‮ ‬وخربت علاقاتي بكل البشر‮ .. ‬لكنني أحببت الحواديت وسعدت بسماعها‮.. ‬وأعتقد أن ما يزال عندك الكثير منها،‮ ‬وأريد حقا‮ ‬أن أن أدونها لك كما كانت الحال في أول مرة‮ .. ‬أرجوك‮ .. ). ‬
‮ ‬الحكي كغاية يصير هو الوجود ذاته،‮ ‬الحكي كذب،‮ ‬غير أن الوجود كما يمكن أن نجربه ليس بالضرورة حقيقيا‮ ‬وقابلا‮ ‬للتصديق‮. ‬إن العالم في‮ " ‬حواديت الآخر‮ " ‬يبدو تاليا‮ ‬في وجوده علي صورته كحفنة حكايات‮. ‬وما‮ " ‬رآه‮ " ‬الراوي لم ينقض في لحظة ما‮ " ‬روي له‮ " ‬عن مدينة النحاس‮ .. ‬صورة العالم كما يقدمها الحكي تكاد تطابق جوهره كما تخبره الذات‮ . ‬وتغدو‮ " ‬الكتابة‮ " ‬وفق هذا المنطق كمنجز متقدم في مسيرة الحضارة سجنا‮ ‬للوجود،‮ ‬ينتزعه من رحابة التحريف قدر ما يضمن له الاستمرارية‮. ‬صفقة لابد منها،‮ ‬البقاء لابد له من سياق اتفاقي يخلقه ما هو مدوٌّن‮. ‬
‮> > > ‬
‮ ‬المنطق الفني للرواية يعمد إلي خلق‮ ( ‬بارودي‮ ) ‬أو محاكاة ساخرة للعالم الحديث‮. ‬إن‮ "‬مدينة النحاس‮ " ‬تبدو هنا كما لو كانت مدينة افتراضية علي شاشة كمبيوتر،‮ ‬تملك مواصفات ماضوية أكيدة لكن شروطها الفعلية تنتمي لمعرفة ما بعد الحداثة‮. ‬
إنه‮ »‬game‮ « ‬قادر علي توريطك فيه وبث الرعب في أوصالك،‮ ‬لكنه ينتهي في لحظة ليبدأ من جديد‮ ‬في مرة تالية،‮ ‬ومن نقطة الصفر‮. ‬يبرر ذلك التأكيد في نهاية الرواية علي أنها‮ " ‬تمت حتي إشعار آخر‮ "‬،‮ ‬هي تامة في هذه اللحظة لكن ليست تامة علي إطلاقها‮.‬
‮ ‬في أحد المشاهد الدالة،‮ ‬يكتب الراوي‮ " ‬باس وورد‮ " ‬ليدخل المغارة‮: ( ‬جلست علي مقعد مريح أمام باب المغارة‮. ‬نقرت علي الزر الأيسر مرتين،‮ ‬فطلع لي ملكان سألاني عن اسمي وديني وكتابي وطلبا مني كلمة السر‮. ‬عندما قدمتها انفتح أمامي شريط من نور برقت تحته كلمات‮: ‬من فضلك اكتب اسم الشخص الذي تبحث عنه ثم اطلق السهم القابع علي اليمين‮ . ‬بحثت عن‮ ‬الحروف علي المفاتيح المصفوفة‮ ..... ‬إذا كان الشخص الذي تبحث عنه موجودا‮ ‬في هذه القائمة،‮ ‬انقر علي اسمه مرتين وسنوافيك بالمعلومات والتعليمات‮.. ‬وإذا لم يكن موجودا‮ ‬فنرجو منك تضييق نطاق البحث‮ .. ) . ‬تتري مثل هذه الأداءات‮ " ‬الرقمية‮ " ‬بامتداد النص،‮ ‬وكأن مدينة النحاس تحولت إلي مكان ماضوي بشروط مستقبلية‮ . ‬هذه‮ " ‬الخفة‮ " ‬في تناول ما تم توارثه باعتباره ثقيلا‮ ‬ ولاحظ الدلالة المرجعية لمفردة‮ " ‬النحاس‮" ‬نفسها تحيل الوجود نفسه إلي واقع افتراضي‮. ‬محض نسخة من بين ملايين النسخ المتاحة والقابلة مرة بعد أخري للتعديل والتحديث‮. ‬يتسق الوجود وفق هذا التصور مع ما أسلفته عن حقيقة الوجود حيال كذب الحكي‮ . ‬الوجود نفسه لا يمنحك إلا صورته‮ ‬،‮ ‬تماما‮ ‬كما لا يمنحك الحكي إلا صورة عما يحكي عنه‮. ‬إنه سؤال ما بعد حداثي بامتياز‮: ‬سؤال الفرادة في تحولها إلي‮ ‬copy‮ ‬تصير من خلاله الأيقونة محض اسطوانة مدمجة‮.‬
‮ ‬مدينة النحاس تتعالق مع هذه الشروط،‮ ‬مقدمة ما هو أبعد من سؤال امتزاج الواقع بالخيال‮ ‬،‮ ‬لأنه لا يشكك فقط في ماهية المدرك أمام‮ ‬غير القابل للإدراك المجرد،‮ ‬بل يفكك الشروط الأساسية للإيهام كلما أسس لها‮ . ‬
‮ ‬مدينة النحاس هي إذن وفق تأويلي‮ ‬شخصي المكان الذي تعبره الأزمنة،‮ ‬وقد تجتمع فيه في لحظة،‮ ‬متجاورة،‮ ‬كل لحظة‮ ‬بشرطها المفارق للحظة المتاخمة لها‮. ‬
مدينة هي الوجود،‮ ‬ووجود هو برمته‮ " ‬آخر‮ " ‬يحكي لك مالم تر،‮ ‬ويجبرك علي كتابته ليقرأه لاحق‮ ! . ‬



طارق إمام


هناك تعليق واحد:

hasona يقول...

مدينة هي الوجود،‮ ‬ووجود هو برمته‮ " ‬آخر‮ " ‬يحكي لك مالم تر،‮ ‬ويجبرك علي كتابته ليقرأه لاحق‮ ! . ‬

رواية جميلة
شكرا لك علي جهدك

وربنا يعينك علي تزويدنا بهذه الابداعات


تحياتي
وكل سنة وانت بكل خير