الأحد، 29 مارس 2009

صلاح جاهين.. المتسمى على اسم مصر


كانت مصر غرام جاهين الأكبر والأجمل، عشقها وغنى لها، ودافع عنها، ووعدها وبر بوعوده كلها، لكن الزمان أخلف وعده. كانت القاهرة "صاحبته"، كما دعاها في قصيدة له (صاحبتي – ديوان قصاقيص ورق)، وكان عبد الناصر ابن طيبة الذي استرد تاج الفرعون بعد ثلاثة آلاف سنة من الاحتلال، حبيبه وصفيه وإن كان على بُعد.

وكان الفن مزاجه وملعبه؛ فقد آمن أن الفن نوع من اللعب مهما احتوى أفكارًا ومشاعر ومواقف سياسية أو اجتماعية أو فلسفية، وكان يرى أن الفن لو كان مجرد تعبير لكانت المقالة هي الوعاء الأمثل لتلك المهمة، وإلا لماذا يتجشم الشاعر جهد البحث عن قواف في نهاية كل سطر، ويحرص على انضباط الإيقاع، إن لم يكن كل هذا نوعًا من اللعب اللذيذ الممتع للاعبه ولمتفرجه (أي القارئ).

ولم يكن اختيار صلاح جاهين للعامية لغة لشعره مجرد انحياز للفقراء وغير المتعلمين؛ بل كان في الأساس فرضًا علميًا أراد أن يثبته وهو: أن العامية قادرة على التعبير الفني الراقي مثلها مثل الفصحى ومثل أي لغة في العالم، وكانت هذه الفرضية نابعة من واقع محدود للتعبير العامي في الشعر وكان هذا المجال المحدود هو الزجل الاجتماعي الساخر الذي كان بيرم معلمه الأكبر، والذي ارتفع به لأنه كان أكبر من زجال بكثير، كان شاعرًا عبقريًا محبوسًا في إطار الزجل وتقاليده، وقد استطاع جاهين أن يثبت فرضيته وازداد إيمانًا بصحتها حين اطلع على قصيدة عامية لفؤاد حداد في إحدى الجرائد اليسارية قبيل الثورة.

وكانت له نظرية مازلت أعجب لها منذ أن أعرب لي عنها وأنا بعد مراهق قال: الفن جوهر واحد، ومن يمارس نوعًا منه يستطيع إذا ركز أن يمارس الأنواع الأخرى، وربما كان هذا الاعتقاد نابعًا من حالته الفريدة كظاهرة إبداعية شاملة ومتنوعة.

عقيدة فنية أخرى كانت لديه: أن الفنان ينبغي ألا يكرر نجاحه؛ بل بعد كل نجاح ينسى الوصفة الفنية التي حققته وينتقل إلى نقطة بداية جديدة نحو شكل آخر مختلف تمامًا، على سبيل المثال "الليلة الكبيرة" التي حققت نجاحًا ساحقًا لم يحاول جاهين أن يكتب شيئًا يشبهها، وفى فترة توهجه الشعري(1959 – 1963) كتب جاهين إلى جانب الرباعيات عدة قصائد تعد علامات مهمة في شعره على سبيل المثال : قصاقيص ورق، المقابر، غنوة برمهات، تراب دخان، سيد درويش، فنان (مرثية لفاخر فاخر) وأخرى بعنوان "قصيدة" كل تلك القصائد – كما أسر لي – كتبها ليثبت أن الشعر يمكن أن يكتب هكذا: فكل قصيدة منها كانت فتحًا و"سكة" في الشعر كما يقال.

وكان العمل بالنسبة له هو القيمة العليا والأولوية الكبرى في حياته، وحين تزوج والدتي قال لها منذ البداية: عملي أولاً، ثم أولادي ثم أنت. ولولا هذا التركيز في العمل والولاء المطلق له لما استطاع صلاح جاهين أن ينجح في كل المجالات التي طرقها.. وبعد كانت هذه ملامح عامة سريعة لهذا الفنان الضخم، ولأترك الكتاب يحكي بالتفصيل.
.......
بهاء جاهين
مقدمة كتاب "ايام صلاح جاهين.. حكاية شعب وسيرة فنان "
لمحمد توفيق
يصر قريبًا عن دار العين للنشر

ليست هناك تعليقات: