كتب محمد عويس عرضًا ونقدًا لكتاب "المقدس والمدنس في فكر الحركات الإسلامية" لد.محمد حلمي عبد الوهاب والصادر عن دار العين للنشر.وذلك في جريدة الحياة اللننية وإليكم نص المقال
....
يتميز كتاب «المُقدس والمُدنس: الديني والسياسي في فكر الحركات الإسلامية» (محمد حلمي عبد الوهاب - دار العين للنشر - القاهرة) بقدرة مؤلفه على طرح التساؤلات، ومناقشة كثير من المسلمات السياسية لدى الحركات الإسلامية ومن على شاكلتها، وفي الوقت نفسه لا يدعي القدرة على تقديم حلول شافية بقدر ما يدعونا إلى مشاركته التفكير في ما آل إليه النقاش حول الظاهرة الإسلامية.
أيضاً يُحسب انتسابه إلى تيار يفرق تفريقاً ظاهراً بين الإسلام (الصراطي) المتمثل في (النص) بجلاله وقدسيته وثباته وتجاوزه للأزمنة والأمكنة، وبين أداء وسلوكيات (الإسلاميين) ممن ينظرون إلى الإسلام باعتباره ديناً ودولة ويأتون لهذا أفعالاً بشرية متعددة يريدون أن يقدموها بصفتها الحقيقة الخالصة، أو الفريضة الواجبة. و(المقدس والمدنس) يحوي قضايا مهمة مثارة في اللحظة الراهنة، نذكر منها: جدلية الديني والسياسي في الإسلام، الإحيائية الإسلامية، الأطر المرجعية للحركات الإسلامية، دعاة اليوم وموقفهم من الحداثة, الإخوان المسلمون والحرب على جبهات ثلاث، استراتيجيات الجهاد، الإسلام الطرقي وهل يصبح بديلاً من حركات الإسلام السياسي؟ والقضية الأخيرة هذه يستحق أن يُفرد لها كتاب مستقل لأنه يمكن القول إن التصوف الإسلامي وطرقه أصبحا محل اهتمام كثير من المختصين في أوروبا وأميركا، حتى أن إريك جيوفري (من أهم المختصين بالتصوف الإسلامي في جامعة لوكسمبورغ) يؤكد أن مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً لتيار التصوف الإسلامي.
إشكالية الديني والسياسي في الإسلام تمثل قضية لم تحسم قط، كما يرى المؤلف الذي يشير إلى بروز حقيقتين رئيسيتين: الأولى أن استقراء التاريخ الإسلامي يُنبئ بأن تحالف الديني والسياسي كان أمراً ظاهرياً فحسب لأن إشكالية العلاقة بينهما ظلت مجمدة على أساس التكامل الظاهري وتبعية الديني للسياسي حقيقة، وتحليلنا للمحن التي تعرض لها ممثلو السلطة الدينية مثل أحمد بن حنبل، والحلاج، وغيرهما والتي كانت من مقتضيات السياسة في المحل الأول والأخير، إذ اتسمت الإجراءات التي أتُخذت في هذا الشأن بأنها كانت سياسية بحتة وإن بدت في الزي الديني متخفية تحت قناعه. ولا تتوقف أولوية السياسي على الديني على جانب دون آخر، وإنما تشمل الحقول كافة التي تمارس فيها السلطة فعلها فنجد: المأمون يقتل الأمين، ومن قبله يتفق هارون الرشيد مع أمه على قتل أخيه الهادي، ومن بعدهما تواطأ المستنصر على قتل أبيه المتوكل، هذه الحلقات المستمرة من مسلسل سفك الدماء والتصارع على السلطة حتى يحظى أحدهم في النهاية بلقب (أمير المؤمنين)، و(خليفة المسلمين)، والدين لم يكن مصدر الداء بل واقعاً مارسته السلطة التي كانت تستغله تارة وتجابهه تارة أخرى حسبما تقتضي المصلحة السياسية.
الحقيقة الثانية أن الحركات الاجتماعية التي قامت في الإسلام ضد السلطة القائمة كانت سريعاً ما تتراجع عن أهدافها ما أن تصل إلى السلطة مع استثناءات بسيطة جداً .
هنا يمكن القول إن السلطة تمثل في الأساس عامل فساد, والناظر إلى مسيرة عبد الملك بن مروان قبل الخلافة وبعدها يعجب كل العجب من هذا التحول الذي لحق به، فقد كان قبلها عابداً زاهداً ناسكاً في المدينة وحين صار خليفة قتل عبد الله بن الزبير وصلبه عام 73هـ.
قضية أخرى يطرحها الكتاب: لماذا تهاوى مشروع الإصلاح في العالم العربي؟ وقبل الاجابة نجد أن هذه الإشكالية ستظل مطروحة - مالم يتم تجاوزها في ظل اشتباك قضايا التجديد الديني والإصلاح السياسي.
والأسباب التي أدت إلى تراجع حركة الإصلاح عديدة منها: أن الحركة الإصلاحية ظلت متمسكة بموقفها التوفيقي من الناحية الفكرية في تصورها لحل المشكلات والمعضلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت تواجه المجتمع العربي آنذاك. كما كانت على قناعة تامة بأن الوسيلة الوحيدة لتجاوز حال التأخر التاريخي، والمشكلات الناتجة منه، إنما تتمثل فقط في العودة إلى الأصول ونبذ البدع والتقليد والجمود، مع مناداتها بضرورة الاقتباس في الوقت نفسه من الأفكار الغربية.
أي أن العقلانية الإصلاحية كانت في مجملها عقلانية توفيقية، ومن ثم ارتكزت استراتيجيتها الى منحيين مختلفين، وإن أديا في النهاية إلى النتيجة ذاتها، وهما: إما توظيف الدين من أجل السياسة في وضع تاريخي كما فعل جمال الدين الأفغاني، أو توظيف السياسة من أجل الدين كما فعل محمد عبده.
لكن، وفي الوقت ذاته، كانت الحركات الإصلاحية تؤمن بأن مشروع الإصلاح لا يتحقق إلا على قاعدة الإسلام، ومن ثم راح الإصلاحيون يجتهدون ويجددون ليجعلوا من الإسلام ديناً عقلانياً يؤسس للنهضة المنشودة. ومن ثم اكتفى الإصلاحيون بالبحث عن حلول من خلال اللجوء إلى طريقة (التوفيق) و(الاقتباس) ليس إلا!. كما لم تتمكن الحركة الإصلاحية من التجذر في البنى الاجتماعية التي تريد إصلاحها وتنفذ المشروع الإصلاحي داخلها، ولم تتمكن أيضاً من إشاعة مناخ إصلاحي يتقبل أو يتبنى دعواته، ومن ثم المساهمة في تشكيل الأطر الاجتماعية والسياسية الحاملة له والتي تنهض بمهماته. وإنما على العكس تماماً، لعبت السلفية التقليدية دوراً كبيراً في إفشال الحركة الإصلاحية من جهة، وأسهمت في تنامي المد الأصولي من جهة ثانية.
وبرأي البعض، تعود مواقف السلفية التقليدية هنا إلى مجموعة من العوامل، منها ما يتعلق بالسياق التماثلي للفكر التقليدي ذاته بصفته يُعبر عن بنية وتركيبة عقلية دوغمائية. ومنها ما يعود إلى عوامل تخص السياق اللامتماثل الذي يتصل بالأوضاع السياسية والاجتماعية.
ومن بين الأسباب التي منعت الحركة الإصلاحية من الانتصار على التقليدية، وجعلتها تتراجع أمام هيمنتها، أنها، ومن الناحية المعرفية، كثيراً ما كانت تقف على الأرضية نفسها. فلم يتمكن الخطاب الإصلاحي من تجاوز منطق التقليد تماماً، وبخاصة عندما استمرت عملية توظيف منهجية أو أدوات التفكير التقليدي ذاتها في الاشتغال داخل بنى الخطاب الإصلاحي.
ومن بين الظواهر الدالة على هذا الأمر، أن خطاب الإصلاحية كان قائماً على منطق ثنائيات من مثل: الرفض والنفي، القبول والتعاطي، الأصالة والمعاصرة، ولم يكن خطاباً إثباتياً، وهكذا هي حال أي خطاب لا يفتح أفقاً للتقدم، ولا ينبجس عنه فكر جديد.
وأخيراً، يرجع إخفاق الحركة الإصلاحية، إلى غياب الرؤية المستقبلية، البنائية، الإثباتية، لما يمكن أن يقوم ويشرع به بعد تحقق الشروط الأولية للإصلاح، أي بعد التخلص من الاستعمار، وقوى التقليد، والأوضاع التاريخية المسببة للجمود والانحطاط، أي أن هناك غياباً تاماً للمرجعية الفكرية الشاملة والمتماسكة والمعبرة عن بنية المشروع الإصلاحي ذاته ولمكونات الرؤية الإصلاحية للنهوض بالذات العربية الإسلامية.
ويتطرق االكتاب إلى الدعاة الجدد حاملي لواء الدعوة الإسلامية، إذ يركز على اكتشاف موقع الداعية من العصر من جهة، وأهم المعوقات التي تحول دون التعاطي والآخر نتاجاً ومكانة من جهة ثانية، ويلفت النظر إلى أن المعنى بمفهوم «الآخر» في هذا السياق ليس فقط من لا يدين بالإسلام وإنما «الآخر المذهبي/الطائفي» كذلك وأن ذهب تركيزه إلى الأول «المسلم» بصورة أولية.
أيضا اعتمد المؤلف المقاربة التاريخية من خلال تتبع مسيرة الحضارة الإسلامية بين أقرانها في تاريخ الحضارات الإنسانية لجهة التركيز على استكشاف أهم الأخطاء الواقعة بحق هذا التتبع في ذهنية الداعية والتي وفقاً لما تتضمنه من مغالطات في شأنها عادة ما يتم اتخاذ مواقف عدائية من الآخر وارثه الثقافي.
ويشير إلى أن اتخاذ داعية العصر مثل هذا الموقف يضيع عليه فرصة الإفادة من النتاج الحضاري للغرب من ناحية, كما يساهم في تأبيد علاقة الكره والحقد وإرث التعصب والجهل المتبادل بين كلا الطرفين من جهة ثانية. فضلاً عن استحالة حدوث أي تجديد متوقع في بنية هذا الخطاب الديني من جهة ثالثة.
ومن بين هذه الأخطاء التي يقع فيها دعاة اليوم في سياق الحكم على الآخر استناداً لاستقراء مسيرة الحضارة الاسلامية يذكر المؤلف الآتي:
أولاً: فضلاً عن التبرير المفتعل لتوقيت ظهور رسالة الإسلام، يصر الدعاة على القول بأبدبة الحضارة الإسلامية. بمعنى أنهم يرفضون ما آلت إليه من نتيجة طبيعية تبعاً للفتن الكونية وذلك بسبب الخلط الكائن بين الإسلام كرسالة خالدة وخاتمة وبين إرثها الحضاري من جهة ثانية.
فعلى رغم أن هذا المصير يجسد بحد ذاته حتمية تاريخية أو سنة إلهية، بحسب التعبير القرآني، يميل الدعاة عادة إلى استخدام المعايير المزدوجة في الحكم على الحضارات فمن ناحية لا يسلمون مطلقاً بمبدأ الحتمية التاريخية والذي أدى إلى انهيار الحضارة الإسلامية، ومن ناحية ثانية، وفي إطار حكمهم على الحضارة الغربية، يؤكدون عامل الحتمية التاريخية والقول باندثارها مهما طال أمدها بهذا العمر!!
وفي سياق التذكير بسنن الأولين هذه، تؤكد الآيات القرآنية استحالة تغيير أو تبديل أو تحويل تلك السنن عن مسارها الحتمي، والأمر ذاته ينطبق على أمة الإسلام وحضارته، بمعنى أنه كان من غير المنطقي، إن لم نقل المستحيل، أن تسود الحضارة الإسلامية منذ نشأتها حتى اليوم أو حتى أبد الآبدين كما يقول الدعاة من دون انقطاع لأن في ذلك تحويلاً وتبديلاً وتغييراً لسنن الله في الكون.
ثانياً: وفي السياق ذاته يعول الدعاة على استخدام المعايير المزدوجة في سياق الحكم على المعجبين بكلا الحضارتين الإسلامية والغربية على حد سواء. ففي مجال الاستشهاد بحضارة الإسلام يستحضر الدعاة عادة عشرات الأقوال لمن يدعونهم بالمنصفين من الغربيين الذين تغنوا بالحضارة الإسلامية، لكن إذا انتقلنا إلى الحكم على المعجبين بالحضارة الغربية من أهل الإسلام لَلَمحنا اتهامات لا تحصى من قبل الدعاة أنفسهم بالزندقة والعلمنة والعمالة والتبعية لمجرد أنهم أعلنوا عن مدى إعجابهم بحضارة الغرب.
ثالثاً: أيضاً، فضلاً عن التعويل على مبدأ (وشهد شاهـد من أهلهـا) في سياق التأكيـد على الجوانب المضيئـة من حضارة الإسلام، يعول الدعـاة على العمل أيضـا بقاعــدة (هذه بضاعتنا ردت إلينا) في سياق الحكم على إرث الآخر الحضاري والتأكيد أنه ليس سوى امتداد طبيعي للإسلام وحضارته. وهنا يتجلى مدى الخلط الشائع والاضطراب الكائن في الخطاب الدعوي بصورة بينة، فمن جهة يشيد مثل هذا الخطاب ببعض جوانب الحضارة الغربية ويرى فيها امتداداً طبيعياً لحضارة الإسلام ، ومن جهة أخرى يرجع ليصفها أوصافاً من قبيل حضارة الشذوذ الجنسي وتقنين الدعارة وزواج المثليين.
ولكن ما هي المعوقات التي يرى المؤلف أنها تحول دون الاعتراف بالآخر ونتاجه الثقافي وفقاً للقناعات السابقة وبما يؤثر سلباً في اتخاذ موقف معادٍ من قبل الدعاة تجاه الحداثة وما بعدها؟
أولاً: نقـد الاستشراق من منظور ديني، فقد ظل التراث الإسلامي مغموراً وضائعـاً ما بين المكتبات المتهالكة إبان الخلافة العثمانية تارة وبحوزة أشخاص قلائل يعرفون قيمته تارة أخرى وما إن وطأ الاستعمار الأجنبي بلاد العرب حتى بدأت حركة دؤوبة في البحث عنه واستكشافه.
ولاحقاً نشأ جيل كامل من المستشرقين تشربوا التراث الإسلامي، منهم على سبيل المثال: لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسي الكبير الذي خلف قرابة 800 مجلد في التصوف الإسلامي، وهنري كوربان الذي أعلن إسلامه في ما بعد وقضى عمره كله في البحث والتنقيب عن الشيعة والمتصوفة، وواصل هؤلاء جهودهم العلمية حتى بعد استقلال الدول العربية والإسلامية. ولا أحد ينكر أن بعض المستشرقين كان على صلة مباشرة بالسياسات الاستعمارية وكانوا يعملون ضمن توجهاتها ، لكن، وفي المقابل، كان هناك العديد من المستشرقين يعمل بوازع العلم والمعرفة والبحث والاكتشاف والدراسة.
وبعد أن اطلع المسلمون على أعمال هؤلاء، المترجمة بطبيعة الحال، حتى ظهرت موجة من نقد الاستشراق من منظورين: أحدهما ديني، كما الشأن بالنسبة الى غالبية الدعاة الدينيين وأنور الجندي خصوصاً، والآخر حضاري ينقد الاستشراق من منظور سياسي، وعلى رأس هذا التوجه المثقف الفلسطيني البارز إدوارد سعيد.
في نقد الاستشراق من منظور ديني ثمة أخطاء عدة يرتكبها الدعاة في هذا الإطار ومن بينها: أن الداعية إنما يحاكم المستشرق دينياً وليس ثقافياً، بمعنى أنه يظل ينظر إليه باعتباره دخيلا على الإسلام وحضارته وإنه متآمر يبحث عن نقاط بعينها يسود بها حضارة الإسلام، وحتى إذا صادف الداعية قولاً لهذا المستشرق أو ذاك يحس فيه بنوع من الانصاف فإنه سريعاً ما يكون الحكم الثاني جاهزاً وهو أننا يجب ألا نغتر بكلامهم لأنهم إنما «يدسون السم في العسل»!
أيضا يحكم الداعية على أعمال المستشرق انطلاقاً من دينه ومن ثم يتم الافتخار بآراء أحد المستشرقين ووصفه بالعظمة والاقتدار لمجرد أنه أعلن الإسلام! ويتم تجاهل أعمال مستشرقين آخرين، وربما من هم أكثر اقتداراً من الأول لمجرد أنهم احتفظوا بدينهم!
ثانياً: الإيمان بالمؤامرة على الإسلام، وفي السياق ذاتـه، يتم التضخيم من وهم المؤامرة إلى أبعد مدى ولكن لا مناص من أن يسود انسجام بين كل من المثال والواقع، وأن تتغير رؤية العالم لدى دعاتنا المعاصرين وذلك من خلال إقبالهم على أمرين:
الأول: الدعوة الى بناء الدين، وفي موازاة اسقاط سوء الظن بالعالم الآخر، ما يتطلب بالضرورة إعداد دعاة يعرفون الموروث الإسلامي جيداً كما يعرفون أيضاً العالم المعاصر إلى حد مقبول.
الثاني: الدعوة إلى بناء الدنيا أو عمارتها، بحسب التعبير الإسلامي، ومن ثم يجب أن تتغير نظرة الداعية للحياة الدنيا كلية وأن يتم الاستغناء عن المنظور الكئيب والذي يصور الإسلام باعتباره ديناً يدعو إلى الحزن والكآبة والانشغال بأمر الآخرة.
..............
محمد عويس
الحياة اللندنية
....
يتميز كتاب «المُقدس والمُدنس: الديني والسياسي في فكر الحركات الإسلامية» (محمد حلمي عبد الوهاب - دار العين للنشر - القاهرة) بقدرة مؤلفه على طرح التساؤلات، ومناقشة كثير من المسلمات السياسية لدى الحركات الإسلامية ومن على شاكلتها، وفي الوقت نفسه لا يدعي القدرة على تقديم حلول شافية بقدر ما يدعونا إلى مشاركته التفكير في ما آل إليه النقاش حول الظاهرة الإسلامية.
أيضاً يُحسب انتسابه إلى تيار يفرق تفريقاً ظاهراً بين الإسلام (الصراطي) المتمثل في (النص) بجلاله وقدسيته وثباته وتجاوزه للأزمنة والأمكنة، وبين أداء وسلوكيات (الإسلاميين) ممن ينظرون إلى الإسلام باعتباره ديناً ودولة ويأتون لهذا أفعالاً بشرية متعددة يريدون أن يقدموها بصفتها الحقيقة الخالصة، أو الفريضة الواجبة. و(المقدس والمدنس) يحوي قضايا مهمة مثارة في اللحظة الراهنة، نذكر منها: جدلية الديني والسياسي في الإسلام، الإحيائية الإسلامية، الأطر المرجعية للحركات الإسلامية، دعاة اليوم وموقفهم من الحداثة, الإخوان المسلمون والحرب على جبهات ثلاث، استراتيجيات الجهاد، الإسلام الطرقي وهل يصبح بديلاً من حركات الإسلام السياسي؟ والقضية الأخيرة هذه يستحق أن يُفرد لها كتاب مستقل لأنه يمكن القول إن التصوف الإسلامي وطرقه أصبحا محل اهتمام كثير من المختصين في أوروبا وأميركا، حتى أن إريك جيوفري (من أهم المختصين بالتصوف الإسلامي في جامعة لوكسمبورغ) يؤكد أن مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً لتيار التصوف الإسلامي.
إشكالية الديني والسياسي في الإسلام تمثل قضية لم تحسم قط، كما يرى المؤلف الذي يشير إلى بروز حقيقتين رئيسيتين: الأولى أن استقراء التاريخ الإسلامي يُنبئ بأن تحالف الديني والسياسي كان أمراً ظاهرياً فحسب لأن إشكالية العلاقة بينهما ظلت مجمدة على أساس التكامل الظاهري وتبعية الديني للسياسي حقيقة، وتحليلنا للمحن التي تعرض لها ممثلو السلطة الدينية مثل أحمد بن حنبل، والحلاج، وغيرهما والتي كانت من مقتضيات السياسة في المحل الأول والأخير، إذ اتسمت الإجراءات التي أتُخذت في هذا الشأن بأنها كانت سياسية بحتة وإن بدت في الزي الديني متخفية تحت قناعه. ولا تتوقف أولوية السياسي على الديني على جانب دون آخر، وإنما تشمل الحقول كافة التي تمارس فيها السلطة فعلها فنجد: المأمون يقتل الأمين، ومن قبله يتفق هارون الرشيد مع أمه على قتل أخيه الهادي، ومن بعدهما تواطأ المستنصر على قتل أبيه المتوكل، هذه الحلقات المستمرة من مسلسل سفك الدماء والتصارع على السلطة حتى يحظى أحدهم في النهاية بلقب (أمير المؤمنين)، و(خليفة المسلمين)، والدين لم يكن مصدر الداء بل واقعاً مارسته السلطة التي كانت تستغله تارة وتجابهه تارة أخرى حسبما تقتضي المصلحة السياسية.
الحقيقة الثانية أن الحركات الاجتماعية التي قامت في الإسلام ضد السلطة القائمة كانت سريعاً ما تتراجع عن أهدافها ما أن تصل إلى السلطة مع استثناءات بسيطة جداً .
هنا يمكن القول إن السلطة تمثل في الأساس عامل فساد, والناظر إلى مسيرة عبد الملك بن مروان قبل الخلافة وبعدها يعجب كل العجب من هذا التحول الذي لحق به، فقد كان قبلها عابداً زاهداً ناسكاً في المدينة وحين صار خليفة قتل عبد الله بن الزبير وصلبه عام 73هـ.
قضية أخرى يطرحها الكتاب: لماذا تهاوى مشروع الإصلاح في العالم العربي؟ وقبل الاجابة نجد أن هذه الإشكالية ستظل مطروحة - مالم يتم تجاوزها في ظل اشتباك قضايا التجديد الديني والإصلاح السياسي.
والأسباب التي أدت إلى تراجع حركة الإصلاح عديدة منها: أن الحركة الإصلاحية ظلت متمسكة بموقفها التوفيقي من الناحية الفكرية في تصورها لحل المشكلات والمعضلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت تواجه المجتمع العربي آنذاك. كما كانت على قناعة تامة بأن الوسيلة الوحيدة لتجاوز حال التأخر التاريخي، والمشكلات الناتجة منه، إنما تتمثل فقط في العودة إلى الأصول ونبذ البدع والتقليد والجمود، مع مناداتها بضرورة الاقتباس في الوقت نفسه من الأفكار الغربية.
أي أن العقلانية الإصلاحية كانت في مجملها عقلانية توفيقية، ومن ثم ارتكزت استراتيجيتها الى منحيين مختلفين، وإن أديا في النهاية إلى النتيجة ذاتها، وهما: إما توظيف الدين من أجل السياسة في وضع تاريخي كما فعل جمال الدين الأفغاني، أو توظيف السياسة من أجل الدين كما فعل محمد عبده.
لكن، وفي الوقت ذاته، كانت الحركات الإصلاحية تؤمن بأن مشروع الإصلاح لا يتحقق إلا على قاعدة الإسلام، ومن ثم راح الإصلاحيون يجتهدون ويجددون ليجعلوا من الإسلام ديناً عقلانياً يؤسس للنهضة المنشودة. ومن ثم اكتفى الإصلاحيون بالبحث عن حلول من خلال اللجوء إلى طريقة (التوفيق) و(الاقتباس) ليس إلا!. كما لم تتمكن الحركة الإصلاحية من التجذر في البنى الاجتماعية التي تريد إصلاحها وتنفذ المشروع الإصلاحي داخلها، ولم تتمكن أيضاً من إشاعة مناخ إصلاحي يتقبل أو يتبنى دعواته، ومن ثم المساهمة في تشكيل الأطر الاجتماعية والسياسية الحاملة له والتي تنهض بمهماته. وإنما على العكس تماماً، لعبت السلفية التقليدية دوراً كبيراً في إفشال الحركة الإصلاحية من جهة، وأسهمت في تنامي المد الأصولي من جهة ثانية.
وبرأي البعض، تعود مواقف السلفية التقليدية هنا إلى مجموعة من العوامل، منها ما يتعلق بالسياق التماثلي للفكر التقليدي ذاته بصفته يُعبر عن بنية وتركيبة عقلية دوغمائية. ومنها ما يعود إلى عوامل تخص السياق اللامتماثل الذي يتصل بالأوضاع السياسية والاجتماعية.
ومن بين الأسباب التي منعت الحركة الإصلاحية من الانتصار على التقليدية، وجعلتها تتراجع أمام هيمنتها، أنها، ومن الناحية المعرفية، كثيراً ما كانت تقف على الأرضية نفسها. فلم يتمكن الخطاب الإصلاحي من تجاوز منطق التقليد تماماً، وبخاصة عندما استمرت عملية توظيف منهجية أو أدوات التفكير التقليدي ذاتها في الاشتغال داخل بنى الخطاب الإصلاحي.
ومن بين الظواهر الدالة على هذا الأمر، أن خطاب الإصلاحية كان قائماً على منطق ثنائيات من مثل: الرفض والنفي، القبول والتعاطي، الأصالة والمعاصرة، ولم يكن خطاباً إثباتياً، وهكذا هي حال أي خطاب لا يفتح أفقاً للتقدم، ولا ينبجس عنه فكر جديد.
وأخيراً، يرجع إخفاق الحركة الإصلاحية، إلى غياب الرؤية المستقبلية، البنائية، الإثباتية، لما يمكن أن يقوم ويشرع به بعد تحقق الشروط الأولية للإصلاح، أي بعد التخلص من الاستعمار، وقوى التقليد، والأوضاع التاريخية المسببة للجمود والانحطاط، أي أن هناك غياباً تاماً للمرجعية الفكرية الشاملة والمتماسكة والمعبرة عن بنية المشروع الإصلاحي ذاته ولمكونات الرؤية الإصلاحية للنهوض بالذات العربية الإسلامية.
ويتطرق االكتاب إلى الدعاة الجدد حاملي لواء الدعوة الإسلامية، إذ يركز على اكتشاف موقع الداعية من العصر من جهة، وأهم المعوقات التي تحول دون التعاطي والآخر نتاجاً ومكانة من جهة ثانية، ويلفت النظر إلى أن المعنى بمفهوم «الآخر» في هذا السياق ليس فقط من لا يدين بالإسلام وإنما «الآخر المذهبي/الطائفي» كذلك وأن ذهب تركيزه إلى الأول «المسلم» بصورة أولية.
أيضا اعتمد المؤلف المقاربة التاريخية من خلال تتبع مسيرة الحضارة الإسلامية بين أقرانها في تاريخ الحضارات الإنسانية لجهة التركيز على استكشاف أهم الأخطاء الواقعة بحق هذا التتبع في ذهنية الداعية والتي وفقاً لما تتضمنه من مغالطات في شأنها عادة ما يتم اتخاذ مواقف عدائية من الآخر وارثه الثقافي.
ويشير إلى أن اتخاذ داعية العصر مثل هذا الموقف يضيع عليه فرصة الإفادة من النتاج الحضاري للغرب من ناحية, كما يساهم في تأبيد علاقة الكره والحقد وإرث التعصب والجهل المتبادل بين كلا الطرفين من جهة ثانية. فضلاً عن استحالة حدوث أي تجديد متوقع في بنية هذا الخطاب الديني من جهة ثالثة.
ومن بين هذه الأخطاء التي يقع فيها دعاة اليوم في سياق الحكم على الآخر استناداً لاستقراء مسيرة الحضارة الاسلامية يذكر المؤلف الآتي:
أولاً: فضلاً عن التبرير المفتعل لتوقيت ظهور رسالة الإسلام، يصر الدعاة على القول بأبدبة الحضارة الإسلامية. بمعنى أنهم يرفضون ما آلت إليه من نتيجة طبيعية تبعاً للفتن الكونية وذلك بسبب الخلط الكائن بين الإسلام كرسالة خالدة وخاتمة وبين إرثها الحضاري من جهة ثانية.
فعلى رغم أن هذا المصير يجسد بحد ذاته حتمية تاريخية أو سنة إلهية، بحسب التعبير القرآني، يميل الدعاة عادة إلى استخدام المعايير المزدوجة في الحكم على الحضارات فمن ناحية لا يسلمون مطلقاً بمبدأ الحتمية التاريخية والذي أدى إلى انهيار الحضارة الإسلامية، ومن ناحية ثانية، وفي إطار حكمهم على الحضارة الغربية، يؤكدون عامل الحتمية التاريخية والقول باندثارها مهما طال أمدها بهذا العمر!!
وفي سياق التذكير بسنن الأولين هذه، تؤكد الآيات القرآنية استحالة تغيير أو تبديل أو تحويل تلك السنن عن مسارها الحتمي، والأمر ذاته ينطبق على أمة الإسلام وحضارته، بمعنى أنه كان من غير المنطقي، إن لم نقل المستحيل، أن تسود الحضارة الإسلامية منذ نشأتها حتى اليوم أو حتى أبد الآبدين كما يقول الدعاة من دون انقطاع لأن في ذلك تحويلاً وتبديلاً وتغييراً لسنن الله في الكون.
ثانياً: وفي السياق ذاته يعول الدعاة على استخدام المعايير المزدوجة في سياق الحكم على المعجبين بكلا الحضارتين الإسلامية والغربية على حد سواء. ففي مجال الاستشهاد بحضارة الإسلام يستحضر الدعاة عادة عشرات الأقوال لمن يدعونهم بالمنصفين من الغربيين الذين تغنوا بالحضارة الإسلامية، لكن إذا انتقلنا إلى الحكم على المعجبين بالحضارة الغربية من أهل الإسلام لَلَمحنا اتهامات لا تحصى من قبل الدعاة أنفسهم بالزندقة والعلمنة والعمالة والتبعية لمجرد أنهم أعلنوا عن مدى إعجابهم بحضارة الغرب.
ثالثاً: أيضاً، فضلاً عن التعويل على مبدأ (وشهد شاهـد من أهلهـا) في سياق التأكيـد على الجوانب المضيئـة من حضارة الإسلام، يعول الدعـاة على العمل أيضـا بقاعــدة (هذه بضاعتنا ردت إلينا) في سياق الحكم على إرث الآخر الحضاري والتأكيد أنه ليس سوى امتداد طبيعي للإسلام وحضارته. وهنا يتجلى مدى الخلط الشائع والاضطراب الكائن في الخطاب الدعوي بصورة بينة، فمن جهة يشيد مثل هذا الخطاب ببعض جوانب الحضارة الغربية ويرى فيها امتداداً طبيعياً لحضارة الإسلام ، ومن جهة أخرى يرجع ليصفها أوصافاً من قبيل حضارة الشذوذ الجنسي وتقنين الدعارة وزواج المثليين.
ولكن ما هي المعوقات التي يرى المؤلف أنها تحول دون الاعتراف بالآخر ونتاجه الثقافي وفقاً للقناعات السابقة وبما يؤثر سلباً في اتخاذ موقف معادٍ من قبل الدعاة تجاه الحداثة وما بعدها؟
أولاً: نقـد الاستشراق من منظور ديني، فقد ظل التراث الإسلامي مغموراً وضائعـاً ما بين المكتبات المتهالكة إبان الخلافة العثمانية تارة وبحوزة أشخاص قلائل يعرفون قيمته تارة أخرى وما إن وطأ الاستعمار الأجنبي بلاد العرب حتى بدأت حركة دؤوبة في البحث عنه واستكشافه.
ولاحقاً نشأ جيل كامل من المستشرقين تشربوا التراث الإسلامي، منهم على سبيل المثال: لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسي الكبير الذي خلف قرابة 800 مجلد في التصوف الإسلامي، وهنري كوربان الذي أعلن إسلامه في ما بعد وقضى عمره كله في البحث والتنقيب عن الشيعة والمتصوفة، وواصل هؤلاء جهودهم العلمية حتى بعد استقلال الدول العربية والإسلامية. ولا أحد ينكر أن بعض المستشرقين كان على صلة مباشرة بالسياسات الاستعمارية وكانوا يعملون ضمن توجهاتها ، لكن، وفي المقابل، كان هناك العديد من المستشرقين يعمل بوازع العلم والمعرفة والبحث والاكتشاف والدراسة.
وبعد أن اطلع المسلمون على أعمال هؤلاء، المترجمة بطبيعة الحال، حتى ظهرت موجة من نقد الاستشراق من منظورين: أحدهما ديني، كما الشأن بالنسبة الى غالبية الدعاة الدينيين وأنور الجندي خصوصاً، والآخر حضاري ينقد الاستشراق من منظور سياسي، وعلى رأس هذا التوجه المثقف الفلسطيني البارز إدوارد سعيد.
في نقد الاستشراق من منظور ديني ثمة أخطاء عدة يرتكبها الدعاة في هذا الإطار ومن بينها: أن الداعية إنما يحاكم المستشرق دينياً وليس ثقافياً، بمعنى أنه يظل ينظر إليه باعتباره دخيلا على الإسلام وحضارته وإنه متآمر يبحث عن نقاط بعينها يسود بها حضارة الإسلام، وحتى إذا صادف الداعية قولاً لهذا المستشرق أو ذاك يحس فيه بنوع من الانصاف فإنه سريعاً ما يكون الحكم الثاني جاهزاً وهو أننا يجب ألا نغتر بكلامهم لأنهم إنما «يدسون السم في العسل»!
أيضا يحكم الداعية على أعمال المستشرق انطلاقاً من دينه ومن ثم يتم الافتخار بآراء أحد المستشرقين ووصفه بالعظمة والاقتدار لمجرد أنه أعلن الإسلام! ويتم تجاهل أعمال مستشرقين آخرين، وربما من هم أكثر اقتداراً من الأول لمجرد أنهم احتفظوا بدينهم!
ثانياً: الإيمان بالمؤامرة على الإسلام، وفي السياق ذاتـه، يتم التضخيم من وهم المؤامرة إلى أبعد مدى ولكن لا مناص من أن يسود انسجام بين كل من المثال والواقع، وأن تتغير رؤية العالم لدى دعاتنا المعاصرين وذلك من خلال إقبالهم على أمرين:
الأول: الدعوة الى بناء الدين، وفي موازاة اسقاط سوء الظن بالعالم الآخر، ما يتطلب بالضرورة إعداد دعاة يعرفون الموروث الإسلامي جيداً كما يعرفون أيضاً العالم المعاصر إلى حد مقبول.
الثاني: الدعوة إلى بناء الدنيا أو عمارتها، بحسب التعبير الإسلامي، ومن ثم يجب أن تتغير نظرة الداعية للحياة الدنيا كلية وأن يتم الاستغناء عن المنظور الكئيب والذي يصور الإسلام باعتباره ديناً يدعو إلى الحزن والكآبة والانشغال بأمر الآخرة.
..............
محمد عويس
الحياة اللندنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق