الأحد، 29 مارس 2009

الرسالة الأولى: طعم التفاحة

حبيبتي،
اشتقت، كأننا لم نكن معاً بالأمس.
أصابعي تسرح بحثاً عنك، تتحرك بوحشة، تتحرش بالهواء، متطلعة، متوجسة، كأصابع كفيف. ولم أجد غير كتاب ألبرتو مانجويل أسليها به. كانت فكرة حلوة أنك لم تشتر لي نسخة خاصة. أقرأ الآن نسختك، أتتبع مثل قصاص أثر علامات أصابعك: الفقرات التي وضعت أمامها نجومك الخضراء، انكسار الورقة الذي يحدد أماكن توقفك عن القراءة واستئنافك لها.

وسط حمى البحث عن رائحتك في الكتاب، صدمني فخر مانجويل بكونه قارئاً ساخن الدم، لا يقر بحق الليلة الأولى لقاريء غيره.
الحرص على عذرية الكتاب وطقس "الافتضاض" ولع لايخص مانجويل وحده، إنما يشاركه فيه ملايين القراء الرجال، ممن يعتبرون القراءة فعلاً ذكورياً محضاً. لكن ماذا عن النساء؟ لا أستطيع أن أتبين على وجه اليقين موقف القارئات. هل يمكن أن تكتبي لي موقفك الشخصي في الرسالة القادمة؟

أعود إلى مانجويل أو مانغويل، الذي لم نجد بعد حلاً لاسمه وللأسماء المشابهة في الترجمة إلى العربية، هل من الصعب أن يتفق العرب على اعتماد أو إلغاء الجيم المصرية غير المعطشة؟!
على أية حال، مانغويل كان أو مانجويل، الرجل الذي بنى شهرته على كونه قارئاً على ذوق قاريء آخر، لن يعرف أن قارئاً عربياً واصل قراءة كتابه هو بالذات، متحملاً الكثير من لحظات الملل والإطالة، لأنه كان يتتبع أثر الأصابع الحبيبة على صفحات الكتاب، بأكثر مما يتتبع رؤيته حول القراءة، التي اجتهد لتقديمها.
ولا أستطيع اتهامه بالادعاء أو عدم الوفاء لمبدأه؛ فاللهجة التي يتحدث بها عن بورخيس تقول إنه كان يستشعر الغيرة من الرجل الأعمى، حتى من دون أن تسبق أصابعه أصابع مانجويل في افتضاض الكتاب: " القراءة على الرجل المكفوف المسن كانت تجربة غريبة بالنسبة إليّ، لأنه كان، كمستمع، سيد النص (...) بورخيس كان يختار الكتاب، وبورخيس كان يمنحني الدعم اللازم، أوكان يطلب الاسترسال في القراءة، وبورخيس كان يقاطعني للإدلاء بتعليق، وبورخيس كان يترك الكلمات تتوجه صوبه، أما أنا فكنت غير منظور". 1
هل شغلتك بمانجويل أكثر من اللازم؟
أعتذر، لكنني أظن أن هذا يعود إلى أهمية كتابه، وكم هو موح. فكرت أيضاً في المقارنة بين قراءته لبورخيس وقراءة الأم لطفلها في المهد.
الطفل مثل الكاتب الأعمى، يقرأ على هواه؛ فيطلب إعادة هذه القصة أو تلك من بين محفوظات الأم.
جميعنا قرأنا في المهد، بل إن الدراسات الحديثة تؤكد أن أجنة الأمهات الشغوفات بأمومتهن يستمتعن بأغنيات وحكايات ما قبل الولادة.
باستثناء غير المرغوب فيهم من ثمرات التشرد ومجهولي النسب، الذين يلقى بهم قطعاً زرقاء من اللحم الغض مع الحبل السري ودماء المخاض، يواصل كل المواليد القراءة في المهد، حريراً كان أوخوصاً.
وكل أم هي شهرزاد مولودها، تهدهده بهديل يتردد صداه في حيواتنا فيما بعد. كل أثر للحضارة في سلوكنا، يعزى إلى هذه القراءة المبكرة، التي إن لم تصلح أساساً لقراءات تالية، فقد قامت على الأقل بدورها في تهذيب الكائن.

لاشيء يعوض حنان هذه القراءات الأولى، ولا حتى النشأة في دير التي تلقاها اللقيط "جرونوي" بطل باتريك زوسكند في "العطر". ستقولين لي إنه غرونوي، لا بأس!
هذا الشقي نال حظه من حليب أمهات بديلات كن يحسدنه على شهيته، وهويجبد من أثدائهن في نهم. ولكنه افتقد هديل الأم، وهذا برأيي هو سبب مواصلته خنق العذارى بلا رحمة!

بعد المرحلة الإلزامية في المهد، تتواصل القراءة بشروط ثقافية وطبقية معينة، بينما تقلع معظم الأمهات عن هذه العادة، بسبب إعاقات الأمية والجري على الرزق، تاركات أطفالهن لمصائرهم.
ولاأحد يعرف أيهم أكثر حظاً: الطفل الذي تتواصل وصاية الأم عليه فتلازمه القراءة بوصفها عادة سلوكية ومتعة مشروعة، أم ذلك الذي ينفطم قسراً، وبدلاً من استمرار هوى القراءة في السرير، يعود إلى اكتشافها بنفسه؛ فتصير ولهاً سرياً بديلاً عن السرير أوعن الحياة ذاتها؟
مازلت أذكر هدهدات أمي، التي انصرفت سريعاً إلى المولود التالي. كما أذكر الكتاب الأول الذي سعيت إليه بديلاً للمتعة الحسية.
حدثتك عنه، ألم أفعل؟!
رواية عن يوسف وزليخة. كانت أول كتاب وقع في يدي، خارج مناهج المدرسة المسورة جيداً بما لايدع مجالاً لنفاذ المتعة.
ويبدوأن الكتاب كان ضمن سلسلة تتوخى تقديم العبر من القصص القرآني للفتيان. لا أذكر المؤلف ولا عنوان القصة، ليس لضعف الذاكرة الضعيفة فعلاً، بل لأن النسخة التي قرأتها كانت منزوعة الغلاف والصفحات الأولى، لكنني أتذكر تماماً رائحة الورق، التي صرت أعول عليها كثيراً في قراءاتي التالية.
لم أنتبه في قصة يوسف وزليخة إلى أي من وجوه القداسة أوالورع التعليمي، الذي يُفترض أن تتركه القصة.
ومثل الحب الأول ـ القابل للتكرار في مرات نادرة ـ لم ألتق بذات النوع من القراءة التي تقوم بديلاً كاملاً لفعل الحب سوى مرتين بعد ذلك: في قصة الحمال والثلاث بنات في ألف ليلة، وعشيق الليدي شاترلى. ربما لأن القصص الثلاث تشترك في تقديم إناث يقدن الذكر إلى أقاليم المتعة، بينما تتفوق قصة يوسف وزليخة بحجم ما تركته من غموض.
ومن حسن حظ البشرية أن وجدت من يبدع قصصاً بهذه العذوبة، يمكنها أن تؤنس المتوحدين والمتوحدات، ممن يفتقدون الفرصة في العثور على شريك، وكبار السن ممن يفتقدون القدرة على المشاركة.
وما كان لهذه القصص أن تعيش، لولا ما تنطوي عليه من نقصان، تدعو القاريء إلى إكماله. وهذا هو وجه التشابه الأعمق بين القراءة وفعل الحب: المشاركة.
النقصان والخوف من النفاد هما أصل كل شبق، والمشاركة طريق كل متعة. ينقل بورخيس عن القس بيركلي قوله:"إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها ـ فالتفاحة بذاتها لاطعم لها ـ وليس في فم من يأكلها، وإنما هو في التواصل بين الاثنين". 3
هذا المثال عن طعم الثمرة المحرمة؛ هو أقصى قدر من الاختراق يستطيعه قس، وينقله عنه بحماس كاتب غير موفق مع النساء كما تقول سيرته التعيسة. وعلينا أن نتقبله فيما يتعلق بالقراءة وفعل الحب؛ فلا معنى لامرأة بغير عاشق، ولا لنص مهمل في كتاب مهجور، أو نص مكتمل، يجيب على كل أسئلته ولايترك شيئاً لمشاركة القاريء.
ذلك النوع من الكتب الخنثى يشبه محار البحر؛ يلقح نفسه بنفسه من دون حاجة إلى قاريء.
لا أريد أن أتركك، ولن أفعل شيئاً غير تصيد النوم، لأحلم بأنني عدت طفلاً، تقرأين لي، بينما تسرح أصابعك بين خصلات شعري.
.....
مقتطف من "كتاب الغواية"
لعزت القمحاوي
يصدر قريبًا عن دار العين للنشر

ليست هناك تعليقات: