الأحد، 1 فبراير 2009

عن توهمات خيري عبد الجواد .... (1)

شوقي عبد الحميد
...................
أستطيع القول من البداية أنه رغم مرور هذه السنوات فإن الرواية تقرأ كما لو أنها كتبت هذه الأيام ، بل لو أنها قرأت بعد مائة عام من الأن لقرأت أيضا ، ذلك حيث اختار كاتبها موضوعا أزليا سيبقي ما كانت هناك حياة ، إذ أن الحياة لابد أن يتبعها الموت ، فكتاب التوهمات – مثلما " كتاب الموتي " الفرعوني يدور حول رحلة الموت أو الرحلة نحو النهار ، حيث لم يكن الموت هو النهاية وإنما كان الرحلة إلي الخلود أو إلي النهار – كذلك يدور كتاب التوهمات عن رحلة الموت ، موت أمينة والدة الراوي التي رحلت من كوم الضبع إلي بولاق الدكرور لتتزوج ممن يكبرها بمائة عام إلا ستين ، هاهي الأن ترحل من بولاق الدكرور إلي كوم الضبع محمولة في رحلتها الأخيرة ، كذلك نفس الرحلة بالنسب للأب من وإلي كوم الضبع ، ثم رحيل كل من عرف الراوي ، حتي وكأن كل من علي الأرض رحلوا ولا يبقي سوي ملك الموت ، فيأمره الله بقبض روحه فيموت هو الآخر وكأن " طباخ السم بيدوقه " .
فالموت إذن هو المهيمن علي العمل ، ولكن الموت موضوع قديم قدم الوجود ، غير أن خيري عبد الجواد يعترف بأن الأفكار ملاقة علي قارعة الطريق ، والمهم كيفيف تناول هذه الأفكار . فكيف كان تناوله للفكرة ؟
أصدر خيري عبد الجواد خمس روايات بعد " كتاب التوهمات " فضلا عن مجموعتان قصصيتان – وكان قبلها قد أصدر ثلاث مجموعات أخري – والمتابع لهذه الأعمال لابد واجد كتاب التوهمات واضحا فيها بقوة ، وكأنه بها قد وضع الأساس وما جاء بعدها أعمدة البنيان المعماري الذي يحمل اسم خيري عبد الجواد ، والتي تتمثل بصفة عامة في الإخلاص والصدق مع البيئة الشعبية التي يمكن معها القول بأنه إذا كان نجيب محفوظ قد نحت روائعه الباقية من داخل الحارة وانطلق منها إلي القضايا الأوسع من الحارة ، فكان ضغوط الوطن القاهرة في العديد منها ( اللص والكلاب ، ثرثرة فوق النيل ، ميرامار ، وغيرها وغيرها ) وكذلك القضايا الأوسع من الوطن كذلك ( أولاد حارتنا ) ، فإن خيري عبد الجواد – أيضا – قد نحت أعماله من داخل الحي ، حي بولاق الدكرور ، ذلك المكان الذي احتشد فيه العديد من الظواهر الشديدة الخصوصية ، والتي استطاع منها خيري أن ينطلق إلي الرؤي الأرحب والعوالم الأوسع . فما هي الخصائص الإسلوبية التي أرساها في كتاب التوهمات وتفرعت فيما أتي بعدها من أعمال حتي أنه يمكن القول بأن " كتاب التوهمات كان بمثابة الدستور الذي تفرعت منه القوانين فيما تلا من أعمال ؟

العناصر الدينية

1 - القرآن
للدين في المناطق الشعبية دور هام وحيوى ، وللقرآن فيه قدسية تعلوها في المناطق الأخرى ، وإن كان أكثر وجودا في الموت ، يقرأونه حين الموت ، ويقرأونه عند المقابر ، ويقرأونه في العزاء ، إلا أنه أيضا محرك أساسي في كل لحظة من حياتهم ، به يتعبدون ، وبه يبدأون كل أعمالهم ، وبه أيضا ينهونها . فهو متغلغل في نسيج الحياة ، لذا فقد نسجه خيري عبد الجواد في سرده كما ينسج الخيط الأبيض مع الخيط الأسود في الثوب الواحد ، حتيى لتستطيع القول بأن السرد في كتاب التوهمات جاء سردا قرآنيا ،وإن لم يزل سردا بشريا تشرب لغة القرآن . فإذا كان القرآن يدعو الأبناء للرحة بالأباء والأمهات ، وأن يصاحبونهم في الدنيا معروفا ، ويضيف المفسرون بأن الأم هى التي حملت الأبن في بطنها وخارج بطنها بينما هو صغير لا يقوي علي الفعل ، بينما نري في " كتاب التوهمات " أن الإبن هو الذي حمل الأم وسعي بها نحو الطبيب ، وهو الذي حملها إلي كوم الضبع بعد أن أخبره الطبيب بأنها تموت ، فنري الراوي – الفاعل – يقول :
{ .. لكن أمي عاندتنى ، هي التى لم تقل لي أف من قبل ولا نهرتني ، وصاحبتني في الدنيا معروفا .. } وكأنه كذلك يعبر عن رحلة الحياة – لا الموت – وكيف أن الويلد يحبو ثم يصير شابا فكهلا فشيخا ، وكأنما يعود طفلا من جديد { ومن نعمره ننكسه في الخلق .. } . ويجعل خيري من الرحلة إلي بولاق الدكرور رحلة الحياة ورحلة العودة إلي كوم الضبع رحلة الموت ، لتكتمل بهما رحلة الحياة ينسجها باستلهام الآيات والأحاديث :
{ .. إن العودة آتية لا ريب فيها ، تكاد تخفي عن أعينكم ، فاذكروا كوم الضبع تذكركم ، ومن أتاها هرولة حرمت جسده علي دود الأرض ، وحرمت الشجاع الأقرع أن يمسه بقرح – هذه وصيتي فاستوصوا ولاتهنوا ولا تحزنوا .. } .

2 – الأولياء

للأولياء في المناطق الشعبية والريفية دور خطير في التبرك وسؤال الحاجة في انتظار الكرامات المنجيات من أزمات الدنيا ، بل قد يصل إلي حد التقديس ، وللأولياء في أعمال خيري عبد الجواد وجود ضاغط وفاعل ، يعبر به عن روح تلك المناطق – الشعبية و الريفية – حيث يمضي في استلهام آيات القرآن أيضا في التعبير عن منظور تلك المناطق للأولياء ، مستخدما الآيات الدالة علي حديث موسي الكليم لربه ورغبته في رؤيته – حين قال (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر اليك قال لن تراني ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما افاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين ) كي يعبرعن مدي نظرة أفراد تلك المناطق للأولياء فنري أمينة حينما تتحدث عن الشيخ عبد الله الضبعي – وليّ القرية وتصف ما دار بينهما من حوار في رؤيا رأتها :
{ .. سلام عليك أمينة يوم ولدت ويوم تموتين ويوم نبعثين حية . فرددت عليه بمثل ما قال ويزيد .
قلت : أرني أنظر إليك . قال : لن تريني ، ولكن انظري إلي شفتي ّ فإن تحركتا فسوف تريني .
فلما نظرت إليهما خررت صعقة ، ولما أفقت تأسفت في قلبي ، وعلمت أن رؤيته محال ، وخفت غضبه مني قلت مولاي اجعل لي آية ...
} .
إلا أن الكاتب لم يرد أن يفهم القارئ الحوار والنظرة بأكثر مما يريد ، فأراد أن يرد الحوار إلي البشر فأتي بحوار موسي – كذلك – مع الخضر كي يكون الحوار بشر مع بشر فيكمل الحوار الدائر بين أمينة والشيخ الضبعي : { .. وقال : مع السلامة يا أمينة . ثم قال : وهذا فراق بيني وبينك . فعلمت أن زمن الموت آت لا ريب فيه .. } .
ثم يستمر الراوي في إظهار نظرة تلك الأم – أمينة – إلي الولي – الضبعي – وما له من قدرة حيث تستمر الأم في الحديث عن رؤيتها للضبعي بعد أن ناخ المرض عليها :
{ .. لحظة أتاني في المنام ، ضم نفسي إلي نفسه فكدت أفارق ، لكنه طمأنني ، وأشار لي بالكلام وأذن بالشكوي فبدأت : طبيبي معي جرح واجعني ، أخاف أقول آه لكلام الناس يوجعني . طبطب علي ظهري فكان بردا وسلاما فأكملت : الصبر مني اشتكي يا طهري . ألحق أقول لكم ، طيب خاطري ، ووعدني بالشفاء .. } .
.............................
يصدر قريبًا عن العين كتاب "التوهمات" بطبعة جديدة، وسيكون ذلك متوافرًا على معرض الاسكندرية في النصف الثاني من شهر فبراير

ليست هناك تعليقات: