لايستطيع قارئ لكتابات خيري عبد الجواد - قصة أو رواية – إلا أن يجد نفسه يغوص في طين الحارة ، ويملأ أنفه عبق الزمن والتاريخ ، ويشعر بملمس الأوراق الصفراء الناضحة بعرق الجدود . وكأنه الراوي الشعبي الشفاهي يحمل ربابته ، يوهمنا بأنه يحكي عن الراحلين ، بينما هو يبكينا علي العائشين . فالجذور هي التي تحدد الثمار ، والجذور هي الملتصقة بالأرض ، وجذور الإنسان هي تاريخه ، فلمعرفته ، كان لابد من معرفة الجذور . فالمتوارث من عادات وأقوال الجدود ، هو المعبر عن طبائعهم وسلوكهم ، وهو الممتد في شعيرات غير مرئية عبر الزمن ليتغلغل فينا .
ولقد لعب الراوي الشفاهي بربابته المحببة دور المؤرخ الحاكي عنم مضوا .
وفي كتاب التوهمات ، يحمل الراوي ربابته ، ويجلس علي دكة المنشد المغني وراح يستعرض ما فات من الراحلين متكئا علي كل عناصر الموروث والتي تمثل بعضها فيما يلي
1 – الراوي والربابة
يمسك الراوي بربابته ، يجلس علي الدكة وسط جمع من الناس المشدودين إليه بحبل خفي ، بحثا عن بطولات السابقين ، ومخلص الضعفاء من المتجبرين والظالمين ، مستثيرا مخيلة سامعيه ، وشدهم إليه باستخدام الشعر الشعبي والسجع من الكلام .
وعلي الرغم من وجود أجهزة الإعلام الجبارة ، إلا أن الإقبال علي هذا النوع من التجمع الشعبي لا زال يجد رواجا ، خاصة بين الشباب ، ربما بحثا عن المنقذ أو المخلص في سير السابقين ، وكأنهم لا زالوا في النتظار أبو زيد الهلالي أو الزناتي خليفة ، أو عنترة . ولاشك – عندي – أن هذا يؤصل حقيقة وجدت في الإنسان العربي عامة ، والمصري خاصة ، وهي الجلوس وانتظار المخلص . هو لا يفعل ، ولكنه ينتظر – وربما – يبحث عمن يفعل .
وخيري عبد الجواد باستخدامه هذا الإسلوب ، فكأنه يضع أيدينا علي خاصية أصيلة في الشعب المصري ، ربما يضعنا في مواجهة أنفسنا ، فقد تدفعنا رؤيتنا لأنفسنا في المرآة ، إلي التغيير ، ومحاولة التغيير . ففي معرض توهم راوينا يؤكد هذا المعني ويرسمه وكأنه يحمل الكاميرة ويدور بها لينقل لنا المشهد :
{ .. توهمت أنني منشد ربابة ، وهو توهم طالما تمنيته واشنهيته . أمسكت ربابتي ، آلة حكيي الحبيبة ، وبين يدي اجتمع نفر من الناس ، وأنا جلست علي دكة خشبية متربعا .. }
ويحمل راوينا ربابته ويبدأ منشدا :
{ .. أنا أول ما نبدي القول نصلي علي النبي . نبي عربي لم بعد نوره نور ، بعد مدحي في جمال محمد ، اصغوا لكلامي عن وجوه أخيار ...} .
ويصل بالراوي تلبس دور الراوي الشعبي حين يتواصل مع سامعيه – وقائيه - ، وكأن بالقارئ للرواية قد جلس في لمة السامعين ويسمع المنشد يقول :
{ .. فربابتي علي كتفي ، والقوس في يدي ، ولساني لا يتوقف ، آه لساني ، هل تصدقون أن صاحبي قتله لسان ، أسمع من يقول : وكيف كان ذلك ؟ صلوا علي من يشفع فيكم : .. } .
2- العدودة
والعدودة هي احتفال من نوع ما ، تمارسه النسوة في المناطق الشعبية والريفية ، وهو مجموعة من الأشعار التي تؤدي في حالات الموت ، بل وهو أحد روافد الفن الشعبي الذي يعد تعبيراعن الهلع وإظهار الحزن ، وإظهار أهمية المتوفي ، تردد النسوة مجموعة من الأشعار التي من كثرة ترديدها لدي كل ميت حتي باتت من المأثورات الدالة علي تلك المناطق ، وحتي بات لكل منطقة عدودتها المميزة لها .
وإذا كان " كتاب التوهمات " هو كتاب الموتي ، فما كان له ألا يستخدم العدودة كأحد وسائله للوصل إلي مكنون تلك البيئة التي أخلص لها وأبي علي نفسه إلا أن يكشف خباياها ، مستخدما ذلك المصباح الكاشف عن الأعماق أكثر مما هو كاشف عن الظاهر .
فإذا كان الرجل هو العمود الأساسي في البيت ، وبموته تهدم البيت ، نجد خيري يسوق تلك العدودة التي تكشف تلك النظرة دون شرح أو توضيح :
[ كان عندنا منه ، كان عندنا منه ، وموت الرجال هو الخراب كله ] ، [ يا مرحبا الليلة – يامّا القبر بقولك – يامرحبا الليلة ، نورت قبرك وعتمت علي العيلة ] .
ويفتتح خيري معظم الفصول بعدودة مصرية ليدخل قارئه في جو الموت ، وطقوسه ، كي يشركه معه فيما هو فيه من حزن ، وليجعل من ذلك الغطاء لذلك الحزن الذي أرادنا أن نشاركه فيه عندما قال : { .. يا أيها الناس ، إذ أقص عليكم خبر موت أمي ، فاستمعوا وأنصتوا لعلكم تبلغون من الحزن ما أنا بالغه ..} .
3- الموال
الموال هو أحد العناصر الأساسية في التعبير عن أفراح وأحزان المناطق الشعبية والريفية ، لذا فما من عمل لخيري عبد الجواد إلا وكان للموال فيه وجود ملحوظ ، يدخل في سياق العمل أو يلقي الضوء علي الأحداث أو المواقف أو يساعد في تكوين الشخصية .
فعندما يحاول رسم شخصية الوالد البالغ من العمر سبعين عاما وسط مجموعة ممن يصغرونه في العمر ، وعند مجلسه المعتاد علي قارعة الطريق ، يناكف الرائح والغادي ، يحاول أن يلفت نظر الجميع ويشاكسهم ، يحاول أن يثبت لهم أن لديه مالا يعرفونه ، أنه قادر علي إعجازهم ، يسوق الموال الملغز ، ويفرح عندما لا يستطيعون حل اللغز في :
{ .. طلع البلكونة بسكينته ، يقول جرح في قلبي سكنته ، يا ناس وسعوا لي سكة انتو .. } .
وإذا كانت القراءة ورسم الحروف يوضح الكثير من المعني ، فإن السماع للموال – خاصة من ذلك الشيخ – يرسم صورة لتلك المحاولة التي يطمس بها الحروف في محاولة لإداخل الحيرة علي السامعين والتي تترك للقارئ تخيل الصورة التي يكون عليها ذلك الشيخ وسامعيه
4 - الليالي
ارتبطت كل فنون القول – تقريبا – بالليل ، الشفاهي منها خاصة ، لذا كان العمل الجبار المعروف باسم ( ألف ليلية وليلة ) ، وكان هو المصدر والصانع للآلاف من الكتاب والكتابات ، العربي منها وغير العربي ، حتي أن ماركيز اعترف بأنه كان أحد مصادره الأولي ، وكان يصطحب نسخة منه في حله وترحاله .
إلا أن تأثر خيري عبد الجواد بها كان أكبر ، إذ لم يتوقف تأثره بها عند حد التشرب فقط ، وإنما اصطبغت كتاباته بها وأخذت صورتها في العديد من كتاباته ، إذ ربما – دون وعي منه – أراد النفاذ إلي جوهر الإنسان الساعي نحو الغريب والمدهش والعجيب من الأخبار والحكايات التي تقوم عليها الليالي – وهو ما نستطيع التعرف علي وجوده بسهولة في النسبة الغالبة من كتاباته . فعندما نجده في " كتاب التوهمات " يولد الحكاية من الحكاية وكأنه في سلسال لا ينقطع من الحكايات – وهي اسلوب ألف ليلة وليلة – يولد الحكاية من الحكاية وعلي الرغم من استقلال كل حكاية عن غيرها ، إلا أن السامع – القارئ – لا يستطيع أن يغادر ، فكأنه مربوط إلي الراوي / السارد بحبل غير مرئ فها هو الراوي – في التوهمات – يصف كيفية خروج الروح كما حكتها الحكايات ، بعد أن كان قد استخرجها من حكاية أخري ، فنري الراوي يقول : { .. وليس هذا بأصعب من لحظة قبض الروح ، ومباشرة سيدنا الملاك صنعته ، وإذا لم تصدقوني فاسمعوا الأتي : .. }
ويبدأ الراوي في حكاية كيفية خروج الروح ثم ما يكاد يفرغ منها حتي يشدنا للدخول في حكاية أخرى .
ولا يتوقف الأمر عند استلهام اسلوب استخراج الحكي فقط ، وإنما استلهام طرقة الحكي كذلك ، بل ربما يصل الأمر استخدام بعض الألفاظ الدارجة التي كانت تستخدمها الليالي . ففنظر مثلا : { .. وذلك له سبب عجيب ، وأمر مدهش غريب ، نحب أن نسوقه علي الترتيب حتى أن المستمع يلذ ويطيب ، بعد ألف صلاة ترضي الحبيب .. } . فالسجع والتطابق هنا واضح جلىّ وهو أحد الأساليب المعروفة في الليالي ، فكأني بالكاتب قد تلبسته روح كاتب الليالي وهو يكتب كتابه ، في توهم حساب أمه وحسابه
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق