يصدر قريبًا عن دار العين للنشر رواية " الجبل" للروائي الراحل فتحي غانم .وستكون الرواية متوفرة في غضون أيام قليلة . والتالي مقال عن الراحل والرواية بقلم شعبان يوسف في جريدة البديل المصرية بتاريخ 24 فبراير 2009.
.............
لم يلحق أذي بأعمال أديب وروائي مصري كبير، مثلما لحق بأعمال فتحي غانم، الروائي والكاتب الصحفي، الذي تحل ذكري رحيله العاشرة في 24 فبراير هذا العام ، والذي بدأ حياته الصحفية منذ منتصف الخمسينيات، وكان يكتب في مجلات متعددة، أبرزها مجلة (التحرير)- لسان حال ثورة يوليو- ونشر فيها عديداً من القصص والتحقيقات والمقالات، حتي استقامت به الأمور، وعمل في مجلة روز اليوسف وتوفر له أن ينشر فيها أعماله مسلسلة، وينشر روايته الأولي (الجبل) في كتابها الذهبي، في فبراير 1959، بعد مجموعته القصصية الأولي (تجربة حب)، التي نشرت في العام نفسه وكانت هذه البدايات كبيرة منذ ولادتها، وأفصحت عن أن أديباً موهوباً يطرق مجال الرواية من أوسع أبوابه، وتتوالي بعد هذه الرواية الأولي، روايات أكثر إثارة للجدل وهي: «من أين، الساخن والبارد، الرجل الذي فقد ظله، المطلقة، تلك الأيام، الغبي، زينب والعرش، حكايتة تو الأفيال، بنت من شبرا، أحمد وداوود، إلخ»، عدا مجموعاته القصصية، وكتبه، ومقالاته في الصحف، إنه عالم كبير، ورغم ذلك فقد تعرضت أعماله لأذي مبكر، وهناك عدد من الأمثلة علي ذلك، أول مثال: «رواية الرجل الذي فقد ظله، التي نشرت في الستينيات مسلسلة، وعندما نشرت في كتاب تعرضت للرقابة الشديدة، تحت ضجة الاحتكار، ولم يكن الأمر كذلك، ولكن الرواية- كما هو معروف- تعرض لشخصية صحفية كبيرة، وهو يوسف عبد الحميد السويفي، الطموح الذي يبذل جميع المحاولات ليتسلق السلم حتي نهايته، وأثيرت بصدد هذه الشخصية بضعة تكهنات، كان أقواها أن فتحي غانم يقصد أو يرمز بهذه الشخصية إلي محمد حسنين هيكل، وقد اتصل المؤلف- كما صرح لمارينا ستاج في كتابها حدود حرية التعبير- بهيكل، وقام بزيارته مجاملة له، تجنباً لأي موقف متوتر، أو شعور بالغضب، ولكن هذه الزيارة لم تستطع أن تنقذ الرواية من الأذي الذي لحق بها، أما الأعجب فحدث مع رواية «تلك الأيام»، وقد نشرت- أيضاً- في مجلة روز اليوسف عام 1966، وعندما نشرت في كتاب حذف منها الرقيب مائة وثلاثين صفحة كاملة، والمدهش أن الرقيب كان أحد معتقلي 59، وهو الأستاذ إلهام سيف النصر، الذي ذاق مرارة التعذيب، والحبس، والاعتقال، ولكنه لم يتورع عن إلحاق الأذي بآخر عندما عمل في صفوف النظام، وأصبح مديراً لتحرير السلسلة، ولم يفرج عن النص الكامل إلا في عام 1972، عندما صدرت الرواية عن (كتاب الجمهورية). المفارقة أن فتحي غانم كان موقوفاً عن الكتابة في ذلك الوقت، وأظن أن الرواية نشرت في ظل أجواء الحملة التي شنتها بعض الدوائر السياسية علي عهد عبد الناصر، وكانت هذه الرواية تتعرض لذلك التاريخ بشكل سلبي، لكن الرقيب الذي حذف- قبل ذلك- تعلل بأن الرواية تنطوي علي مشاهد وأوصاف بذيئة.
كذلك روايته (حكاية تو)، التي تتعرض للتعذيب في عهد عبد الناصر، وخاصة تعذيب الشيوعيين، وتبرز شخصية (شهدي عطية الشافعي) في الرواية، دون تصريح، ولكن جميع المواصفات لشخصية الضحية تنطبق علي شهدي، ويكن الراوي- فتحي غانم- كل التقدير لهذا المناضل، وآماله وأحلامه وثباته أمام آلات التعذيب الوحشية، وأيضاً فهو يقدر نضال الشيوعيين رغم اختلافه معهم وهذه نقطة تحسب لفتحي غانم، ونشرت هذه الرواية- كذلك- مسلسلة في مجلة روز اليوسف عام 1974، ولكنها لم تنشر إلا في عام 1987، أي بعد ثلاثة عشر عاماً، يقول فاروق عبد القادر: «بعد أن نشر روايته المثيرة (حكاية تو عام 1974» أهملها تماماً، حتي دار حديث عنها بيني وبين رئيس تحرير «روايات الهلال» فعمد إلي نشرها في نهاية 1987)، هل بالفعل أهملها فتحي غانم، أم قد تعرضت للتعطيل؟ خاصة أنها لم تتسق مع نغمة الهجوم علي العهد الناصري، علي هوي النظام الجديد، أيا كان الأمر فالرواية تعطلت لفترة طويلة جداً. هذه أمثلة قليلة لما تعرضت له أعمال الكاتب من أذي، أما المتابعات النقدية فلها شأن آخر. ويتعجب الناقد الكبير فاروق عبد القادر لندرة «الدراسات التي تتناول المشروع الروائي لفتحي غانم، وتتابعه في تطويره عبر ثلاثين عاماً، وإذا كان الأمر كذلك- في حياته- مفهوماً، لأن صراعات فتحي غانم كانت كثيرة، وضغط الشخصيات الكبيرة لاقصائه كان مؤثراً، وبالطبع فالهيئة النقدية الموقراً كأنها تتبع التعليمات، فتمارس فعل الإلغاء والمحو والإقصاء لكن هذا لا يمكن أن يكون مفهوماً بعد رحيلة، فلجنة القصة المعلق علي كاهلها الضخم أن تحتفل بمثل هذه الرموز، ولكنها يبدو أنها نائمة، وأستثني- بالطبع- هنا ما كتبه فاروق عبد القادر عن الكاتب، ودراسة هامة أيضاً عن رواية الأفيال للدكتور جابر عصفور وحالات أخري نادرة.
في ظل هذا التجاهل تبادر «دار العين» بإصدار طبعة جديدة من رواية «الجبل» الصادرة منذ خمسين عاماً، وهذه خطوة تستحق التحية والتقدير، خاصة لو استكملت الدكتورة فاطمة البودي صاحبة ومديرة الدار إصدار أعمال فتحي غانم جميع هذه الأعمال التي غابت عن الساحة، وبالمناسبة ففتحي غانم له كتابات كثيرة في بطون المجلات تستحق الجمع، وتنشرها في مجلد مستقل.
وتكمن أهمية رواية (الجبل) في الصراع الأبدي بين البداوة والمدنية، البداوة المتخلفة والراكدة - حقاً- لكنها تنطوي علي أبعاد إنسانية عميقة، والمدنية النظيفة والشيك- فعلاً- لكنها تنطوي علي شراسة، وإلغاء بعنف وضراوة ووحشية، هذا ملخص الرواية، وأقول «ملخص» علي سبيل المجاز، وتطاردني- دوماً- مقولة يحيي حقي، العمل الذي يمكن تلخيصه لا أعتبره نصاً أدبياً ولكنني أقصد الفحوي أو الهدف الذي أراد أن يبلغه فتحي غانم، لكن النص ينطوي علي مهارة شديدة في سرد الأحداث، وسر أغوار الشخصيات النفسية، ولمس حاجاتهم العميقة إلي حياة إنسانية كريمة. تبدأ الرواية بإرسال مدير تحقيقات بوزارة المعارف إلي الأقصر لكي يحقق في مضمون شكوي أرسلها شخص يدعي حسين علي.. يقول هذا الشخص إنه وقبيلته لا يمكن أن يوافقوا علي المحاولة الهمجية في اقتلاعهم من جذورهم، وتسكينهم في قرية نموذجية هذه القرية يسيطر عليها أحد المهندسين، ويمارس أشكالاً من النهب والسلب لمواد البناء والتعمير، إذن فحسين علي يحتج أولا علي محاولة تهجيرهم، أو تمدينهم، ثم إن مشروع التمدين هذا ترتكب به أشد أنواع النهب والسرقات كما شرح في شكواه، والمطلوب من السيد مدير التفتيش أني يحقق في موضوع هذه الشكوي ومدير التحقيقات- هنا- هو فتحي غانم، هكذا ورد اسم مدير التحقيقات، وإيراد الاسم بهذا الشكل، يعطي بعداً واقعياً للرواية، ويذهب فتحي غانم، معترضاً جميع التحذيرات التي واجهه بها رفاقه من خطورة هذه الرحلة، ورجل التحقيقات الذي ذهب هناك وهو معبأ ضد هؤلاء الهمجيين، خاصة بعد أن شرح له مهندس القرية النموذجية خروج هؤلاء البشر علي حدود القانون، فهم يهربون الآثار، بل إنهم يمارسون النصب علي السياح بالقيام ببيع تماثيل وآثار مزيفة لهؤلاء السياح ، مقابل بضعه مئات من الدولارات، وكلما سمع وعلم المهندس بإحدي الوقائع يذهب ويكتب بلاغاً ضدهم، ولكن فتحي غانم ـ بطل الرواية ـ يقرر الذهاب ليكتشف بنفسه هؤلاء اللصوص والهمجيين والبشر الذين لا يريدون مغادرة كهوف الجهل والعتامة.. هذا الرجل عندما يذهب.. يفاجئنا بعالم ساحر ومدهش وغفل، عالم بداوة حقيقي، أي عالم بدائي، لكنه مفعم بقدر كبير جداً من الإنسانيات التي خلت منها هذه المدنية، هذه المدنية التي تحاول تقليم وتهذيب وإصلاح هذه الأبعاد الإنسانية دون أن تنظر لأعماق هؤلاء البشر. طبعاً السارد يجهد نفسه ـ كثيراً ـ في طرح القضية من عدة جوانب، مثل استغلال إحدي الخواجات الفرنسيات، وادعائها أنها حريصة علي مصالحهم، ولكنها تساعدهم في هوسهم للبحث عن كنز فرعوني في الجبل، وتشتري منهم بضع نفايات فرعونية، ببضعة جنيهات قليلة، ولكنها تغوي رجلاً هو حسين علي ـ ذاته ـ الفتي الزين، أصح شباب الجبل، وتعاشره، وتجنده لمصالحها طوال الوقت، وتحاول إغراءه بالمال طوال الوقت.. وهو كان مفتونا بها كامرأة، وتنتابه لحظات غيرة.. ولكن عمدة القرية ينقذه بتزويجه من إحدي فتيات القرية.
المدهش في هذه الرواية هو أن الشخصيات التي يقدمها فتحي غانم، تبدأ بتعريفات مبهمة، ومغلقة، ثم تتفكك بشكل ساحر وننسحر نحن ـ القراء ـ بها، كما الرواي ذاته، الذي يعود بأفكار مختلفة تماماً عن تلك التي ذهب بها، ويصرح بأن الأمر لا يمكن أن تحله بضعة تحقيقات، وبضع أوراق.. ولابد لهذه الدولة أن تنتبه إلي هذا الكيان المهمل والمجهول الذي تعاملت معه الدولة بقسوة وضراوة، إنها صرخة مبكرة جداً.. ليتهم كانوا استمعوا لها.. ليتهم كانوا قد قرأوها.. واستفادوا من هذا الجبل الذي إذا لم يكن معنا فهو ـ بالتأكيد ـ ضدنا.. ومكمن لجميع الشرور المجتمعية، وينوه الراوي في النهاية بقيام جمال عبدالناصر بزيارة هذه البلاد.. وإشادة فتحي غانم بهذه الزيارة تحمل عدداً من التساؤلات المختلفة..
لا أقصد أن الرواية عمل وعظي وإرشادي وتحذيري، وينطوي علي أفكار فقط.. بل إن الرواية قدمت في وقت مبكر جداً عالماً لم يتطرق إليه كاتب في تلك الفترة.. شخصيات علي درجة عالية من الرقة والعذوبة، لا يمكن أن تكتشف هذه الرقة إلا بمعرفة أحوال هذه الشخصيات.. أتمني أن تنتبه المؤسسات لهذا الكاتب الكبير، الذي غُدر به حياً وراحلاً، ومن اليمين واليسار علي وجه العموم.
...
شعبان يوسف
جريدة البديل 22 فبراير 2009
.............
لم يلحق أذي بأعمال أديب وروائي مصري كبير، مثلما لحق بأعمال فتحي غانم، الروائي والكاتب الصحفي، الذي تحل ذكري رحيله العاشرة في 24 فبراير هذا العام ، والذي بدأ حياته الصحفية منذ منتصف الخمسينيات، وكان يكتب في مجلات متعددة، أبرزها مجلة (التحرير)- لسان حال ثورة يوليو- ونشر فيها عديداً من القصص والتحقيقات والمقالات، حتي استقامت به الأمور، وعمل في مجلة روز اليوسف وتوفر له أن ينشر فيها أعماله مسلسلة، وينشر روايته الأولي (الجبل) في كتابها الذهبي، في فبراير 1959، بعد مجموعته القصصية الأولي (تجربة حب)، التي نشرت في العام نفسه وكانت هذه البدايات كبيرة منذ ولادتها، وأفصحت عن أن أديباً موهوباً يطرق مجال الرواية من أوسع أبوابه، وتتوالي بعد هذه الرواية الأولي، روايات أكثر إثارة للجدل وهي: «من أين، الساخن والبارد، الرجل الذي فقد ظله، المطلقة، تلك الأيام، الغبي، زينب والعرش، حكايتة تو الأفيال، بنت من شبرا، أحمد وداوود، إلخ»، عدا مجموعاته القصصية، وكتبه، ومقالاته في الصحف، إنه عالم كبير، ورغم ذلك فقد تعرضت أعماله لأذي مبكر، وهناك عدد من الأمثلة علي ذلك، أول مثال: «رواية الرجل الذي فقد ظله، التي نشرت في الستينيات مسلسلة، وعندما نشرت في كتاب تعرضت للرقابة الشديدة، تحت ضجة الاحتكار، ولم يكن الأمر كذلك، ولكن الرواية- كما هو معروف- تعرض لشخصية صحفية كبيرة، وهو يوسف عبد الحميد السويفي، الطموح الذي يبذل جميع المحاولات ليتسلق السلم حتي نهايته، وأثيرت بصدد هذه الشخصية بضعة تكهنات، كان أقواها أن فتحي غانم يقصد أو يرمز بهذه الشخصية إلي محمد حسنين هيكل، وقد اتصل المؤلف- كما صرح لمارينا ستاج في كتابها حدود حرية التعبير- بهيكل، وقام بزيارته مجاملة له، تجنباً لأي موقف متوتر، أو شعور بالغضب، ولكن هذه الزيارة لم تستطع أن تنقذ الرواية من الأذي الذي لحق بها، أما الأعجب فحدث مع رواية «تلك الأيام»، وقد نشرت- أيضاً- في مجلة روز اليوسف عام 1966، وعندما نشرت في كتاب حذف منها الرقيب مائة وثلاثين صفحة كاملة، والمدهش أن الرقيب كان أحد معتقلي 59، وهو الأستاذ إلهام سيف النصر، الذي ذاق مرارة التعذيب، والحبس، والاعتقال، ولكنه لم يتورع عن إلحاق الأذي بآخر عندما عمل في صفوف النظام، وأصبح مديراً لتحرير السلسلة، ولم يفرج عن النص الكامل إلا في عام 1972، عندما صدرت الرواية عن (كتاب الجمهورية). المفارقة أن فتحي غانم كان موقوفاً عن الكتابة في ذلك الوقت، وأظن أن الرواية نشرت في ظل أجواء الحملة التي شنتها بعض الدوائر السياسية علي عهد عبد الناصر، وكانت هذه الرواية تتعرض لذلك التاريخ بشكل سلبي، لكن الرقيب الذي حذف- قبل ذلك- تعلل بأن الرواية تنطوي علي مشاهد وأوصاف بذيئة.
كذلك روايته (حكاية تو)، التي تتعرض للتعذيب في عهد عبد الناصر، وخاصة تعذيب الشيوعيين، وتبرز شخصية (شهدي عطية الشافعي) في الرواية، دون تصريح، ولكن جميع المواصفات لشخصية الضحية تنطبق علي شهدي، ويكن الراوي- فتحي غانم- كل التقدير لهذا المناضل، وآماله وأحلامه وثباته أمام آلات التعذيب الوحشية، وأيضاً فهو يقدر نضال الشيوعيين رغم اختلافه معهم وهذه نقطة تحسب لفتحي غانم، ونشرت هذه الرواية- كذلك- مسلسلة في مجلة روز اليوسف عام 1974، ولكنها لم تنشر إلا في عام 1987، أي بعد ثلاثة عشر عاماً، يقول فاروق عبد القادر: «بعد أن نشر روايته المثيرة (حكاية تو عام 1974» أهملها تماماً، حتي دار حديث عنها بيني وبين رئيس تحرير «روايات الهلال» فعمد إلي نشرها في نهاية 1987)، هل بالفعل أهملها فتحي غانم، أم قد تعرضت للتعطيل؟ خاصة أنها لم تتسق مع نغمة الهجوم علي العهد الناصري، علي هوي النظام الجديد، أيا كان الأمر فالرواية تعطلت لفترة طويلة جداً. هذه أمثلة قليلة لما تعرضت له أعمال الكاتب من أذي، أما المتابعات النقدية فلها شأن آخر. ويتعجب الناقد الكبير فاروق عبد القادر لندرة «الدراسات التي تتناول المشروع الروائي لفتحي غانم، وتتابعه في تطويره عبر ثلاثين عاماً، وإذا كان الأمر كذلك- في حياته- مفهوماً، لأن صراعات فتحي غانم كانت كثيرة، وضغط الشخصيات الكبيرة لاقصائه كان مؤثراً، وبالطبع فالهيئة النقدية الموقراً كأنها تتبع التعليمات، فتمارس فعل الإلغاء والمحو والإقصاء لكن هذا لا يمكن أن يكون مفهوماً بعد رحيلة، فلجنة القصة المعلق علي كاهلها الضخم أن تحتفل بمثل هذه الرموز، ولكنها يبدو أنها نائمة، وأستثني- بالطبع- هنا ما كتبه فاروق عبد القادر عن الكاتب، ودراسة هامة أيضاً عن رواية الأفيال للدكتور جابر عصفور وحالات أخري نادرة.
في ظل هذا التجاهل تبادر «دار العين» بإصدار طبعة جديدة من رواية «الجبل» الصادرة منذ خمسين عاماً، وهذه خطوة تستحق التحية والتقدير، خاصة لو استكملت الدكتورة فاطمة البودي صاحبة ومديرة الدار إصدار أعمال فتحي غانم جميع هذه الأعمال التي غابت عن الساحة، وبالمناسبة ففتحي غانم له كتابات كثيرة في بطون المجلات تستحق الجمع، وتنشرها في مجلد مستقل.
وتكمن أهمية رواية (الجبل) في الصراع الأبدي بين البداوة والمدنية، البداوة المتخلفة والراكدة - حقاً- لكنها تنطوي علي أبعاد إنسانية عميقة، والمدنية النظيفة والشيك- فعلاً- لكنها تنطوي علي شراسة، وإلغاء بعنف وضراوة ووحشية، هذا ملخص الرواية، وأقول «ملخص» علي سبيل المجاز، وتطاردني- دوماً- مقولة يحيي حقي، العمل الذي يمكن تلخيصه لا أعتبره نصاً أدبياً ولكنني أقصد الفحوي أو الهدف الذي أراد أن يبلغه فتحي غانم، لكن النص ينطوي علي مهارة شديدة في سرد الأحداث، وسر أغوار الشخصيات النفسية، ولمس حاجاتهم العميقة إلي حياة إنسانية كريمة. تبدأ الرواية بإرسال مدير تحقيقات بوزارة المعارف إلي الأقصر لكي يحقق في مضمون شكوي أرسلها شخص يدعي حسين علي.. يقول هذا الشخص إنه وقبيلته لا يمكن أن يوافقوا علي المحاولة الهمجية في اقتلاعهم من جذورهم، وتسكينهم في قرية نموذجية هذه القرية يسيطر عليها أحد المهندسين، ويمارس أشكالاً من النهب والسلب لمواد البناء والتعمير، إذن فحسين علي يحتج أولا علي محاولة تهجيرهم، أو تمدينهم، ثم إن مشروع التمدين هذا ترتكب به أشد أنواع النهب والسرقات كما شرح في شكواه، والمطلوب من السيد مدير التفتيش أني يحقق في موضوع هذه الشكوي ومدير التحقيقات- هنا- هو فتحي غانم، هكذا ورد اسم مدير التحقيقات، وإيراد الاسم بهذا الشكل، يعطي بعداً واقعياً للرواية، ويذهب فتحي غانم، معترضاً جميع التحذيرات التي واجهه بها رفاقه من خطورة هذه الرحلة، ورجل التحقيقات الذي ذهب هناك وهو معبأ ضد هؤلاء الهمجيين، خاصة بعد أن شرح له مهندس القرية النموذجية خروج هؤلاء البشر علي حدود القانون، فهم يهربون الآثار، بل إنهم يمارسون النصب علي السياح بالقيام ببيع تماثيل وآثار مزيفة لهؤلاء السياح ، مقابل بضعه مئات من الدولارات، وكلما سمع وعلم المهندس بإحدي الوقائع يذهب ويكتب بلاغاً ضدهم، ولكن فتحي غانم ـ بطل الرواية ـ يقرر الذهاب ليكتشف بنفسه هؤلاء اللصوص والهمجيين والبشر الذين لا يريدون مغادرة كهوف الجهل والعتامة.. هذا الرجل عندما يذهب.. يفاجئنا بعالم ساحر ومدهش وغفل، عالم بداوة حقيقي، أي عالم بدائي، لكنه مفعم بقدر كبير جداً من الإنسانيات التي خلت منها هذه المدنية، هذه المدنية التي تحاول تقليم وتهذيب وإصلاح هذه الأبعاد الإنسانية دون أن تنظر لأعماق هؤلاء البشر. طبعاً السارد يجهد نفسه ـ كثيراً ـ في طرح القضية من عدة جوانب، مثل استغلال إحدي الخواجات الفرنسيات، وادعائها أنها حريصة علي مصالحهم، ولكنها تساعدهم في هوسهم للبحث عن كنز فرعوني في الجبل، وتشتري منهم بضع نفايات فرعونية، ببضعة جنيهات قليلة، ولكنها تغوي رجلاً هو حسين علي ـ ذاته ـ الفتي الزين، أصح شباب الجبل، وتعاشره، وتجنده لمصالحها طوال الوقت، وتحاول إغراءه بالمال طوال الوقت.. وهو كان مفتونا بها كامرأة، وتنتابه لحظات غيرة.. ولكن عمدة القرية ينقذه بتزويجه من إحدي فتيات القرية.
المدهش في هذه الرواية هو أن الشخصيات التي يقدمها فتحي غانم، تبدأ بتعريفات مبهمة، ومغلقة، ثم تتفكك بشكل ساحر وننسحر نحن ـ القراء ـ بها، كما الرواي ذاته، الذي يعود بأفكار مختلفة تماماً عن تلك التي ذهب بها، ويصرح بأن الأمر لا يمكن أن تحله بضعة تحقيقات، وبضع أوراق.. ولابد لهذه الدولة أن تنتبه إلي هذا الكيان المهمل والمجهول الذي تعاملت معه الدولة بقسوة وضراوة، إنها صرخة مبكرة جداً.. ليتهم كانوا استمعوا لها.. ليتهم كانوا قد قرأوها.. واستفادوا من هذا الجبل الذي إذا لم يكن معنا فهو ـ بالتأكيد ـ ضدنا.. ومكمن لجميع الشرور المجتمعية، وينوه الراوي في النهاية بقيام جمال عبدالناصر بزيارة هذه البلاد.. وإشادة فتحي غانم بهذه الزيارة تحمل عدداً من التساؤلات المختلفة..
لا أقصد أن الرواية عمل وعظي وإرشادي وتحذيري، وينطوي علي أفكار فقط.. بل إن الرواية قدمت في وقت مبكر جداً عالماً لم يتطرق إليه كاتب في تلك الفترة.. شخصيات علي درجة عالية من الرقة والعذوبة، لا يمكن أن تكتشف هذه الرقة إلا بمعرفة أحوال هذه الشخصيات.. أتمني أن تنتبه المؤسسات لهذا الكاتب الكبير، الذي غُدر به حياً وراحلاً، ومن اليمين واليسار علي وجه العموم.
...
شعبان يوسف
جريدة البديل 22 فبراير 2009
هناك تعليقان (2):
سعدت كثيرا بالعثور على هذا المقال عن طريق المصادفه .. لطالما احترمت الصفحه الثقافيه لجريدة "البديل" الراحله كما احترمت الجريده ككلّ بشكل عام و أسفت كثيرا لتوقّفها .. أرجو أن تواصل نشر مثل هذه المقالات المتقنه الممتعه جدّا لقرّائها ..
بالمناسبه لماذا لم تصدر دار العين رواية الجبل كما وعدت؟ بحثت عنها فى صفحة الاصدارات و من خلال أدوات البحث ولم أجدها بكل أسف ..
إرسال تعليق