قدم محمد خير نقدًا لرواية "عزت القمحاوي " الأخيرة "الحارس" والصادرة عن العين للنشر. ونص المقال كالتالي:
....
"يوماً بعد يوم بدأ يعتمد على فصٍّ واحد من مخه، مفرغاً الآخر لسياحات لذيذة، بدأ يتعرف إلى مدينة لم يألفها، نظيفة، شبه خالية، بلا عوادم سيارات ضارة، ولا مشاة ينشرون الأمراض بعطسهم المتكرر، ولا متسولين يبتزونه بعاهاتهم المصطنعة"
لا يتحدث هنا عزت القمحاوي عن عين مغلقة وأخرى مفتوحة: في روايته «الحارس» («دار العين» ــــ القاهرة)، يجبر الروائي والصحافي المصري بطل روايته على الفصل بين فصّي مخّه. فالبطل، الملازم وحيد، الذي يعمل في حراسة الرئيس، لا بد من أن يتعلّم النوم بنصف مخه وإبقاء النصف الآخر مستيقظاً من أجل أن «تبقى الدولة فصاً واحداً». هكذا، يشرح له القائد، وهكذا يدربونه في عالم الحراسة الرئاسية الذي حوله إلى إنسان آخر، بل إلى «رقم» آخر في عالم يقرأون فيه أحكام الإعدام خلال طابور التمام الصباحي. هكذا، لا تصبح تلك الأحكام مؤلمة، بل تبدو «أحكاماً ضد لا أحد، لعبة أخرى من الألعاب التي لم تكتمل قط، لأنّه لم ير متى أو أين تنفذ هذه الأحكام، فماذا يعني إعدام الجندي 3303؟ أو حبس الجندي 1221؟ إنه مثل خبر مصرع قائد شاحنة في بكين».
هل يمكن أن يقضي الحارس حياته في حماية الرئيس من دون أن يراه مرةً واحدة؟ تلك المواكب الهائلة في البر وفي الجو معظمها للتمويه، لا أحد يعلم أين الرئيس حقاً، في أي سيارة؟ في أي طائرة؟
سيدفع الملازم وحيد نصف عمره مقابل أن يلقي نظرة إلى داخل السيارة المحميّة، في اليوم نفسه الذي حالفه الحظ فيه لإفشال مؤامرة لاغتيال الرئيس. إذ نجح في قتل المهاجمين المنقّبين وجلب التكريم لسلاح الفرسان الذي ينتمي إليه. لكنّ سخرية بعض زملائه الضباط أحبطت معنوياته المزهوة، وخاصة عندما أكّد أحدهم أنّ الرئيس كان معه على طائرته في أمان في الوقت الذي كان الملازم وحيد على الأرض يخاطر بحياته ويذود ببسالة عن شبح مخفي يسخر من الجميع.
كل المشاعر والذكريات والرغبات تتساوى وتستوي على الأرض لتدهسها أحذية الحرس. رويداً رويداً، يكره هذا الضابط حتى النسيم المدني، يفقد حبيبته فلا يهتم كثيراً، يكره الإجازات ويعود إلى العمل قبل انتهائها. وقد تلخّصت طموحاته في شيء واحد: تطوير المنظومة الأمنية. هكذا استوحى فكرة من الريموت كونترول. كيف يمكن الوصول إلى تقنية التوقيف؟ يلمح الحارس بين الجموع عيناً حاقدة، يضغط على الزر فيتجمد كلٌّ على وضعه، بينما يمضي الرئيس مع حارسه حامل جهاز التحكم. ثمة مشكلة واحدة في ذلك «الطموح»، إذ قد «لا يرضى الرئيس بالتحرك بين جمادات في دولة مسحورة».
عالم غير مطروق في الرواية العربية يقدّمه القمحاوي في روايته الثالثة، ويستعير فيه ملمحاً بارزاً من أدب أميركا اللاتينية، هو التناول الغرائبي لعوالم ديكتاتوريات العالم الثالث. ولا يمكن تجاهل المفارقة التي تطل برأسها، فقد تخلصت أميركا اللاتينية نفسها من تلك الديكتاتوريات لمصلحة الديموقراطية، بينما العالم العربي ما زال يحبو في «كتابة» مآسي ديكتاتورياته، بدلاً من إطاحتها.
....
"يوماً بعد يوم بدأ يعتمد على فصٍّ واحد من مخه، مفرغاً الآخر لسياحات لذيذة، بدأ يتعرف إلى مدينة لم يألفها، نظيفة، شبه خالية، بلا عوادم سيارات ضارة، ولا مشاة ينشرون الأمراض بعطسهم المتكرر، ولا متسولين يبتزونه بعاهاتهم المصطنعة"
لا يتحدث هنا عزت القمحاوي عن عين مغلقة وأخرى مفتوحة: في روايته «الحارس» («دار العين» ــــ القاهرة)، يجبر الروائي والصحافي المصري بطل روايته على الفصل بين فصّي مخّه. فالبطل، الملازم وحيد، الذي يعمل في حراسة الرئيس، لا بد من أن يتعلّم النوم بنصف مخه وإبقاء النصف الآخر مستيقظاً من أجل أن «تبقى الدولة فصاً واحداً». هكذا، يشرح له القائد، وهكذا يدربونه في عالم الحراسة الرئاسية الذي حوله إلى إنسان آخر، بل إلى «رقم» آخر في عالم يقرأون فيه أحكام الإعدام خلال طابور التمام الصباحي. هكذا، لا تصبح تلك الأحكام مؤلمة، بل تبدو «أحكاماً ضد لا أحد، لعبة أخرى من الألعاب التي لم تكتمل قط، لأنّه لم ير متى أو أين تنفذ هذه الأحكام، فماذا يعني إعدام الجندي 3303؟ أو حبس الجندي 1221؟ إنه مثل خبر مصرع قائد شاحنة في بكين».
هل يمكن أن يقضي الحارس حياته في حماية الرئيس من دون أن يراه مرةً واحدة؟ تلك المواكب الهائلة في البر وفي الجو معظمها للتمويه، لا أحد يعلم أين الرئيس حقاً، في أي سيارة؟ في أي طائرة؟
سيدفع الملازم وحيد نصف عمره مقابل أن يلقي نظرة إلى داخل السيارة المحميّة، في اليوم نفسه الذي حالفه الحظ فيه لإفشال مؤامرة لاغتيال الرئيس. إذ نجح في قتل المهاجمين المنقّبين وجلب التكريم لسلاح الفرسان الذي ينتمي إليه. لكنّ سخرية بعض زملائه الضباط أحبطت معنوياته المزهوة، وخاصة عندما أكّد أحدهم أنّ الرئيس كان معه على طائرته في أمان في الوقت الذي كان الملازم وحيد على الأرض يخاطر بحياته ويذود ببسالة عن شبح مخفي يسخر من الجميع.
كل المشاعر والذكريات والرغبات تتساوى وتستوي على الأرض لتدهسها أحذية الحرس. رويداً رويداً، يكره هذا الضابط حتى النسيم المدني، يفقد حبيبته فلا يهتم كثيراً، يكره الإجازات ويعود إلى العمل قبل انتهائها. وقد تلخّصت طموحاته في شيء واحد: تطوير المنظومة الأمنية. هكذا استوحى فكرة من الريموت كونترول. كيف يمكن الوصول إلى تقنية التوقيف؟ يلمح الحارس بين الجموع عيناً حاقدة، يضغط على الزر فيتجمد كلٌّ على وضعه، بينما يمضي الرئيس مع حارسه حامل جهاز التحكم. ثمة مشكلة واحدة في ذلك «الطموح»، إذ قد «لا يرضى الرئيس بالتحرك بين جمادات في دولة مسحورة».
عالم غير مطروق في الرواية العربية يقدّمه القمحاوي في روايته الثالثة، ويستعير فيه ملمحاً بارزاً من أدب أميركا اللاتينية، هو التناول الغرائبي لعوالم ديكتاتوريات العالم الثالث. ولا يمكن تجاهل المفارقة التي تطل برأسها، فقد تخلصت أميركا اللاتينية نفسها من تلك الديكتاتوريات لمصلحة الديموقراطية، بينما العالم العربي ما زال يحبو في «كتابة» مآسي ديكتاتورياته، بدلاً من إطاحتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق