شقت الصرخة صمت الليل، فانتفضتُ. صرخة كئيبة ملتاعة، مثل ومضة في سماء معتمة. انتبهت حواسي جميعًا، وسرعان ما رعَدَت الصرخة مرة أخرى. لكنها بددت انطباعاتي الأولى عنها. ليست صرخة ألم؛ بل لغة شهوانية لروح ترفل في نشوتها، إشارة حسية تكتسي صوت امرأة، شهقة جسد يكتشف لذته، متوسلاً صوتًا بدائيًا ضاربًا في القدم، تعود جذوره إلى بذرة اللذة الأولى. نعم ليس هذا الصوت سوى آهات حارة تطلقها امرأة في أوج لذتها.
من أين يأتي الصوت؟ من جهة نافذة غرفة النوم على الأرجح. توجهت صوب الغرفة، ببطء، بينما أسترق السمع. اختلست النظر عبر فتحات الشيش المتتابعة. نوافذ البناية المقابلة كلها مغلقة، ومعتمة. كيف استطاعت هذه السيدة أن تتخلى عن خجلها وأصول اللياقة، مطلقة العنان لشهوتها الفضائحية على هذا النحو؟
لكن أليست نبرة الصراخ هذه مألوفة على نحو ما؟ أليس هذا هو صوت....؟! لا، لا. الأصوات تتشابه، خاصة تأوهات النساء في غلمتهن.
ألقى بي الصوت في لهيب الشهوة، ونيران الغضب المتراكم من فقدان الصبر. خرجت إلى الصالة. نظرتُ باتجاه ساعة الحائط الخشبية العتيقة على الجدار. بدأتْ متوالية: القلق، التوتر، ثم الغضب. هذه هي المرة الثانية، على التوالي، التي تتأخر فيها على الموعد دون أن تعتذر.
ليس لديَّ طاقة لتبرير غيابها هذه المرة. الفعل الوحيد الذي استطعته هو إشعال سيجارة، بينما أواجه الوقت الضائع بانتظار عجول يفتقر لفضيلة الصبر.
للحظة أدركت إمكانية مقاومة الزمن الضائع، والتعامل معه بوصفه زمنًا حقيقيًا، وشحذت مخيلتي:
بدأتُ بتخيل الثياب التي قد يروق لها أن ترتديها. اخترتُ لها تَنُّورتَها "الجينز" القصيرة؛ التي تبرز جمال ساقيها؛ ذاتا السمانتين المدملجتين، "تي شيرت" ملون بالأرجواني والأبيض والأزرق والأخضر، بلا أكمام؛ ما يتيح لي تأمل كتفيها العاجيين، بتكوينهما الفاتن. ستعقص شعرها الأسود الطويل، وتترك خصلات من أطرافه تنسدل على الكتف.
تخطو الخطوات القليلة الفاصلة بين الباب والأريكة المواجهة لباب الشقة، بتؤدة وهي تلهث. تغمض عينيها وتقول بنبرة عتاب هامسة: "مش هتصلحوا الأسانسير بتاعكم ده؟"، وقبل أن أجيب ستسألني أن أحضر لها كوب ماء. سأقترب منها لأداعب وجنتيها، لكنها، ستمسك يدي بحسم، وتؤكد لي أنها عطشانة.
بوصولي للثلاجة سيأتيني صوتها بكلمات مبهمة. أحاول كتم ضحكتي في أثناء إجابتي عليها بأنني لا أسمعها جيدًا؛ إذ أعرف أنها تحاول إثبات معاناتي متاعب في السمع، منذ مازحتها مرة، بقولي أن سمعها ضعيف، في إحدى سهراتنا الصاخبة.
لم تقبل الدعابة. اعتبرتها محاولة للسخرية منها. وتحولت السهرة من المرح إلى العتاب. لاحقًا، وفي مناسبات عديدة، كانت تتعمد أن أبتعد عنها، لترفع عقيرتها بكلمات بلا معنى، وإذا طلبت منها أن تكرر ما تقوله، تهز كتفيها بلا اكتراث وتقول، وملامح الضيق مرسومة على وجهها: أنها ليست مستعدة لتكرر ما تقوله عشرات المرات حتى أسمعها.
ستتردد ضحكتي في الطرقة الطويلة الخالية من أي أثاث. سأندهش قليلاً من وقع صوت الضحكة التي تنتهي بقعقعة يعقبها صرير. أعود بالكوب الزجاجي، وزجاجة المياه. أصب لها الماء في الكوب وأقدمه إليها فتلتقطه متحاشية تلاقي عينانا.
ستمد لي يدها بالكوب الفارغ. سأسألها بينما أتأمل جمال ساقها المرفوعة فوق الأخرى: "عايزة مايَّه تاني؟" فتسدد لي نظرة عتاب قاسية. عندئذ سأدرك أنني نقضت عهدنا بالتحدث باللغة الإنجليزية فقط، وهذه قصة يطول شرحها على أي حال. ولعلني سأعاود السؤال بصيغته المثلى بالنسبة لها: "هل تريدين مزيدًا من الماء؟" وستهز رأسها بالنفي.
تدرك أنني بسؤالي أتعجل انتقالها من مكانها هذا إلى الغرفة في الداخل. فهي تعرف كراهيتي للانتظار المتلكئ في الركن المواجه للباب؛ متوترًا، بلا أدنى قدرة على التجاوب معها، خوفًا من الجيران، الذين لا أشك في أنهم يتنصتون علىّ كلما سمعوا صوتًا نسائيًا يتردد في الشقة، خاصة بعد انتقال أمي لدار المسنين.
لكنها ستستمر جالسة في مكانها حتى يصيبني الملل. لن أبدي تذمرًا، حتى لا تستفزني بأي كلمة. سيتوتر الموقف. أتجه للغرفة مستفزًا، فتقرر المغادرة من دون أن تودعني أو تنطق بحرف.
بطرقة الباب الصاخبة المستفزة تعلن رحيلها. وتنطلق إشارة البدء لمرحلة من التوتر والترقب، ومحاولات الصلح العبثية، بعد يومين كاملين لا ترد خلالهما على هاتفي.
ما الذي يجعلني ألتصق بها طالما أنها تتقمص دور القنبلة الموقوتة هذا، توشك على الانفجار في كل لحظة؟ أستمتع معها بممارسة الجنس؟ لا أعتقد، لأنني لا أمارس معها سوى حالة من مراقبة جسدها العاري، كأنني فيتيشي تلصص، وهذه قصة أخرى.
لأكن أكثر دقة وأقول أنني أحب جسمها. كنت أظن أنني أحب النحيفات، لكني تبينت؛ أن جسدها المدملج المكتنز، هو الجسد النموذجي. ثمة مسحة عاطفية في تعريها، فيض من تيار عاطفي خفي يشع من الجسد، ويستفز التعاطف والحنو، مع حس إيروتيكي، تفصله شعرة عن الاهتياج الشهواني. فكرت كثيرًا في ذلك، خاصة وأنني استسلمت لقانونها الذي يمنع اللمس بلا كثير من الجدل.
ربما لأن روحها تتحرك في مساحة أكبر، قد لا تتاح لأرواح النحيفات. أو لأن الجسد المبطن بالدهون يشحن صاحبته عاطفيا بدرجة أكبر من الجسم الجاف الخالي من الدهون. سمعت هذه الجملة في أحد الأفلام. لم أعد أذكر منه شيئًا سوى هذه الجملة.
استهواني التناقض الحاد بين لون بشرتها القمري، ولون شعرها الذي يذكرني بلون الكحل، والليل. هل يكون للتناقض في شخصيتها دور في إجابة السؤال؟ لماذا أحبها؟ يظل سؤالاً استثنائيًا، ليس في حالتي معها فقط، وإنما في تاريخ العواطف البشرية. وإجاباته، على تنوعها ليست سوى محض افتراضات.
هل أنتظرها الآن لاشتياقي إلى فعل الحب معها؟ لكي أستمع إلى صرختها الأخيرة التي تكتمها طوال فعل الحب الاستعرائي، الذي تفرضه علينا، ولا تطلقها إلا بعد وصول جسدينا -افتراضيا- إلى الذروة؟ الإجابة هنا بالنفي التام. فغريبة أطوار مثلها؛ لها دائمًا شروطها الخاصة، وفي هذه الحالة هو"ممنوع اللمس"؛ أي أن فعل الحب معها ليس سوى عملية افتراضية محضة.
أم تراني أشتاق لعريها؟ لجوع عيني وهما تلتهمان جمال الجسد العاري. للألفة التي لم أعرفها مع غيرها؛ حيث أستمع لثرثراتها التافهة بشغف، وبالحوارات المطولة بيننا التي قد تبدأ بالشكوى من مشكلات العمل، ثم نمائم الصحف، وطرائف الفضائيات أو عجائبها، وتمر على الترجمة والأدب، وتطل على السياسة، ومنها إلى الحب والجنس.
هل أحبها؟ كان السؤال ملحًا. لكني ابتسمت لأنني لم أسأله لنفسي في مواجهة مرآة الحمام، التي أدقق فيها النظر، عادة، مواجهًا نفسي بالأسئلة الصعبة التي أجيب عنها بلا مراوغة.
هي الآن تعرف، بيقين كامل، أنني أنتظرها؛ متوترًا. أذرع الشقة يمينًا ويسارًا، أحترق بخيبة الأمل، بينما هي، من مكان قصي، تنتشي باحتراقي في شهوتي وقلقي.
انتقلت إلى غرفة المعيشة القريبة لمدخل الشقة، رفعت صوت التليفزيون. كانت الشاشة تعرض برنامجًا حواريًا على قناة الجزيرة. قلبت القنوات حتى لمحت "روبرت دي نيرو"، فانتبهت، وقررت أن أتابع الفيلم حتى النهاية.
غفوت في أثناء عرض الفيلم. استيقظت على رنين الهاتف الموجود في غرفة النوم، فاتجهت إليها بخطوات متعثرة. رفعت السماعة وكان صوتها الناعس مفاجئًا ومربكًا ببحته المثيرة. هذا ما يحدث لصوتها عندما تكون مستثارة. برق في ذهني خاطر أنها مرت بعلاقة جسدية مع شخص غامض لا أعرفه.
قالت: "مساء الخير". "مساء الخير". "إنت كنت نايم؟". "أيوه". "آسفة إني صحيتك، بس أنا راحت عليَّ نومة، أصل كنت تعبانة شوية، ماعرفتش إنك اتصلت إلا لما صحيت". "سلامتك". "الله يسلمك". "أنا آسفة، بس كان لازم اعتذر لك، وكمان في حاجة غريبة حصلت". "خير.. إيه اللي حصل؟". "إنت ما شفتش تليفزيون النهاردة؟". "لأ". "معقولة؟". "ما كانش عندي وقت، خير؟ قولي لي إيه اللي حصل". "أصلهم بيقولوا إن روايات نجيب محفوظ اختفت من البلد!". "إيه ؟ يعني إيه اختفت من البلد؟". "مش عارفة.. بس بيقولوا إن المكتبات كلها اتفاجئت إن مافيش أي واحدة عندها نسخة من أي كتاب لمحفوظ".
ضحكتُ، وكنت بدأت أشعر باستعادة وعيي.. قالت: "بتضحك على إيه؟". "مش عارف.. أصل الموضوع غريب قوي.. إنت صاحية شوية؟". "أيوه". "طيب أنا هاعمل قهوة في خمس دقايق وأكلمك على طول". "أوكي بس ما تتأخرش". "خمس دقايق". "أوكي". "باي". "باي".
من أين يأتي الصوت؟ من جهة نافذة غرفة النوم على الأرجح. توجهت صوب الغرفة، ببطء، بينما أسترق السمع. اختلست النظر عبر فتحات الشيش المتتابعة. نوافذ البناية المقابلة كلها مغلقة، ومعتمة. كيف استطاعت هذه السيدة أن تتخلى عن خجلها وأصول اللياقة، مطلقة العنان لشهوتها الفضائحية على هذا النحو؟
لكن أليست نبرة الصراخ هذه مألوفة على نحو ما؟ أليس هذا هو صوت....؟! لا، لا. الأصوات تتشابه، خاصة تأوهات النساء في غلمتهن.
ألقى بي الصوت في لهيب الشهوة، ونيران الغضب المتراكم من فقدان الصبر. خرجت إلى الصالة. نظرتُ باتجاه ساعة الحائط الخشبية العتيقة على الجدار. بدأتْ متوالية: القلق، التوتر، ثم الغضب. هذه هي المرة الثانية، على التوالي، التي تتأخر فيها على الموعد دون أن تعتذر.
ليس لديَّ طاقة لتبرير غيابها هذه المرة. الفعل الوحيد الذي استطعته هو إشعال سيجارة، بينما أواجه الوقت الضائع بانتظار عجول يفتقر لفضيلة الصبر.
للحظة أدركت إمكانية مقاومة الزمن الضائع، والتعامل معه بوصفه زمنًا حقيقيًا، وشحذت مخيلتي:
بدأتُ بتخيل الثياب التي قد يروق لها أن ترتديها. اخترتُ لها تَنُّورتَها "الجينز" القصيرة؛ التي تبرز جمال ساقيها؛ ذاتا السمانتين المدملجتين، "تي شيرت" ملون بالأرجواني والأبيض والأزرق والأخضر، بلا أكمام؛ ما يتيح لي تأمل كتفيها العاجيين، بتكوينهما الفاتن. ستعقص شعرها الأسود الطويل، وتترك خصلات من أطرافه تنسدل على الكتف.
تخطو الخطوات القليلة الفاصلة بين الباب والأريكة المواجهة لباب الشقة، بتؤدة وهي تلهث. تغمض عينيها وتقول بنبرة عتاب هامسة: "مش هتصلحوا الأسانسير بتاعكم ده؟"، وقبل أن أجيب ستسألني أن أحضر لها كوب ماء. سأقترب منها لأداعب وجنتيها، لكنها، ستمسك يدي بحسم، وتؤكد لي أنها عطشانة.
بوصولي للثلاجة سيأتيني صوتها بكلمات مبهمة. أحاول كتم ضحكتي في أثناء إجابتي عليها بأنني لا أسمعها جيدًا؛ إذ أعرف أنها تحاول إثبات معاناتي متاعب في السمع، منذ مازحتها مرة، بقولي أن سمعها ضعيف، في إحدى سهراتنا الصاخبة.
لم تقبل الدعابة. اعتبرتها محاولة للسخرية منها. وتحولت السهرة من المرح إلى العتاب. لاحقًا، وفي مناسبات عديدة، كانت تتعمد أن أبتعد عنها، لترفع عقيرتها بكلمات بلا معنى، وإذا طلبت منها أن تكرر ما تقوله، تهز كتفيها بلا اكتراث وتقول، وملامح الضيق مرسومة على وجهها: أنها ليست مستعدة لتكرر ما تقوله عشرات المرات حتى أسمعها.
ستتردد ضحكتي في الطرقة الطويلة الخالية من أي أثاث. سأندهش قليلاً من وقع صوت الضحكة التي تنتهي بقعقعة يعقبها صرير. أعود بالكوب الزجاجي، وزجاجة المياه. أصب لها الماء في الكوب وأقدمه إليها فتلتقطه متحاشية تلاقي عينانا.
ستمد لي يدها بالكوب الفارغ. سأسألها بينما أتأمل جمال ساقها المرفوعة فوق الأخرى: "عايزة مايَّه تاني؟" فتسدد لي نظرة عتاب قاسية. عندئذ سأدرك أنني نقضت عهدنا بالتحدث باللغة الإنجليزية فقط، وهذه قصة يطول شرحها على أي حال. ولعلني سأعاود السؤال بصيغته المثلى بالنسبة لها: "هل تريدين مزيدًا من الماء؟" وستهز رأسها بالنفي.
تدرك أنني بسؤالي أتعجل انتقالها من مكانها هذا إلى الغرفة في الداخل. فهي تعرف كراهيتي للانتظار المتلكئ في الركن المواجه للباب؛ متوترًا، بلا أدنى قدرة على التجاوب معها، خوفًا من الجيران، الذين لا أشك في أنهم يتنصتون علىّ كلما سمعوا صوتًا نسائيًا يتردد في الشقة، خاصة بعد انتقال أمي لدار المسنين.
لكنها ستستمر جالسة في مكانها حتى يصيبني الملل. لن أبدي تذمرًا، حتى لا تستفزني بأي كلمة. سيتوتر الموقف. أتجه للغرفة مستفزًا، فتقرر المغادرة من دون أن تودعني أو تنطق بحرف.
بطرقة الباب الصاخبة المستفزة تعلن رحيلها. وتنطلق إشارة البدء لمرحلة من التوتر والترقب، ومحاولات الصلح العبثية، بعد يومين كاملين لا ترد خلالهما على هاتفي.
ما الذي يجعلني ألتصق بها طالما أنها تتقمص دور القنبلة الموقوتة هذا، توشك على الانفجار في كل لحظة؟ أستمتع معها بممارسة الجنس؟ لا أعتقد، لأنني لا أمارس معها سوى حالة من مراقبة جسدها العاري، كأنني فيتيشي تلصص، وهذه قصة أخرى.
لأكن أكثر دقة وأقول أنني أحب جسمها. كنت أظن أنني أحب النحيفات، لكني تبينت؛ أن جسدها المدملج المكتنز، هو الجسد النموذجي. ثمة مسحة عاطفية في تعريها، فيض من تيار عاطفي خفي يشع من الجسد، ويستفز التعاطف والحنو، مع حس إيروتيكي، تفصله شعرة عن الاهتياج الشهواني. فكرت كثيرًا في ذلك، خاصة وأنني استسلمت لقانونها الذي يمنع اللمس بلا كثير من الجدل.
ربما لأن روحها تتحرك في مساحة أكبر، قد لا تتاح لأرواح النحيفات. أو لأن الجسد المبطن بالدهون يشحن صاحبته عاطفيا بدرجة أكبر من الجسم الجاف الخالي من الدهون. سمعت هذه الجملة في أحد الأفلام. لم أعد أذكر منه شيئًا سوى هذه الجملة.
استهواني التناقض الحاد بين لون بشرتها القمري، ولون شعرها الذي يذكرني بلون الكحل، والليل. هل يكون للتناقض في شخصيتها دور في إجابة السؤال؟ لماذا أحبها؟ يظل سؤالاً استثنائيًا، ليس في حالتي معها فقط، وإنما في تاريخ العواطف البشرية. وإجاباته، على تنوعها ليست سوى محض افتراضات.
هل أنتظرها الآن لاشتياقي إلى فعل الحب معها؟ لكي أستمع إلى صرختها الأخيرة التي تكتمها طوال فعل الحب الاستعرائي، الذي تفرضه علينا، ولا تطلقها إلا بعد وصول جسدينا -افتراضيا- إلى الذروة؟ الإجابة هنا بالنفي التام. فغريبة أطوار مثلها؛ لها دائمًا شروطها الخاصة، وفي هذه الحالة هو"ممنوع اللمس"؛ أي أن فعل الحب معها ليس سوى عملية افتراضية محضة.
أم تراني أشتاق لعريها؟ لجوع عيني وهما تلتهمان جمال الجسد العاري. للألفة التي لم أعرفها مع غيرها؛ حيث أستمع لثرثراتها التافهة بشغف، وبالحوارات المطولة بيننا التي قد تبدأ بالشكوى من مشكلات العمل، ثم نمائم الصحف، وطرائف الفضائيات أو عجائبها، وتمر على الترجمة والأدب، وتطل على السياسة، ومنها إلى الحب والجنس.
هل أحبها؟ كان السؤال ملحًا. لكني ابتسمت لأنني لم أسأله لنفسي في مواجهة مرآة الحمام، التي أدقق فيها النظر، عادة، مواجهًا نفسي بالأسئلة الصعبة التي أجيب عنها بلا مراوغة.
هي الآن تعرف، بيقين كامل، أنني أنتظرها؛ متوترًا. أذرع الشقة يمينًا ويسارًا، أحترق بخيبة الأمل، بينما هي، من مكان قصي، تنتشي باحتراقي في شهوتي وقلقي.
انتقلت إلى غرفة المعيشة القريبة لمدخل الشقة، رفعت صوت التليفزيون. كانت الشاشة تعرض برنامجًا حواريًا على قناة الجزيرة. قلبت القنوات حتى لمحت "روبرت دي نيرو"، فانتبهت، وقررت أن أتابع الفيلم حتى النهاية.
غفوت في أثناء عرض الفيلم. استيقظت على رنين الهاتف الموجود في غرفة النوم، فاتجهت إليها بخطوات متعثرة. رفعت السماعة وكان صوتها الناعس مفاجئًا ومربكًا ببحته المثيرة. هذا ما يحدث لصوتها عندما تكون مستثارة. برق في ذهني خاطر أنها مرت بعلاقة جسدية مع شخص غامض لا أعرفه.
قالت: "مساء الخير". "مساء الخير". "إنت كنت نايم؟". "أيوه". "آسفة إني صحيتك، بس أنا راحت عليَّ نومة، أصل كنت تعبانة شوية، ماعرفتش إنك اتصلت إلا لما صحيت". "سلامتك". "الله يسلمك". "أنا آسفة، بس كان لازم اعتذر لك، وكمان في حاجة غريبة حصلت". "خير.. إيه اللي حصل؟". "إنت ما شفتش تليفزيون النهاردة؟". "لأ". "معقولة؟". "ما كانش عندي وقت، خير؟ قولي لي إيه اللي حصل". "أصلهم بيقولوا إن روايات نجيب محفوظ اختفت من البلد!". "إيه ؟ يعني إيه اختفت من البلد؟". "مش عارفة.. بس بيقولوا إن المكتبات كلها اتفاجئت إن مافيش أي واحدة عندها نسخة من أي كتاب لمحفوظ".
ضحكتُ، وكنت بدأت أشعر باستعادة وعيي.. قالت: "بتضحك على إيه؟". "مش عارف.. أصل الموضوع غريب قوي.. إنت صاحية شوية؟". "أيوه". "طيب أنا هاعمل قهوة في خمس دقايق وأكلمك على طول". "أوكي بس ما تتأخرش". "خمس دقايق". "أوكي". "باي". "باي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق