قدم الروائي ابراهيم فرغلي عرضًا ونقدًا لديوان"من وحي الحماقة" لابراهيم الكندري والصادر عن دار العين للنشر وذلك في جريدة النهار اللبنانية.والتالي هو نص ما كتبه
.........
رأيت هذا الكتاب أكثر من مرة، واكتشفت، في كل مرة جديدًا. ففي القراءة الأولى كنت فقط أحاول تحديد النوع الذي ينتمي اليه الكتاب الصادر عن "دار العين"، فمؤلفه الكاتب الكويتي إبراهيم الكندري، لم يحدد ذلك على الغلاف، وترك المهمة للقارئ على ما يبدو. قرأته أولا بوصفه كتابة حرة، لا تخضع لقانون أو ثوابت، وربما تميل الى التجريب، لكن غموض بعض المعاني والكلمات جعلني أشعر بأنه نص يستعير من الشعر اكثر من غيره، وفي النهاية لم يكن لديَّ شك في أن الكتاب قصيدة نثرية طويلة بالاسم نفسه "من وحي الحماقة".
في القراءة التالية حاولت أن أفهم طبيعة الأنثى التي يوجه إليها الكاتب خطابه الشعري، فلوهلة تبدو الأنثى هنا كحبيبة، عاشقة، ملهمة، يعبّر عن عشقه لها، حينا، ويصف مشاعره الحسية تجاهها، أحيانا، ويشكو إليها همّه، تارة، ويهجو نفسه تارة أخرى، مرتبكا، لاعنا حماقته التي جعلته يتخاذل في مرافقة الحبيبة إلى حيث رحلت بعيدا. بمعنى أن الحبيبة التي يتوجه إليها النص تظل على حافة كونها رمزا لوطن، أو معنى عميقا، أم كونها أنثى حقيقية، من دم ولحم، تستثير مشاعره ورغبته. لكنه التباس يمكن أن يقرأ على أكثر من مستوى، بمعنى القراءة المباشرة لقصة حب، أو قراءة أخرى لعلاقة مركبة بين فرد في صراعه مع محيط يشعر تجاهه بالغبن، ربما، او بالحب الذي يولّد نقدا لكل سلبيات ذلك المحيط كوطن أو كمجتمع أو ككيان يحدد الهوية.
هذا الالتباس تتسبب به تركيبات لصور تحتمل أكثر من تأويل، وأحيانا إحالات على شعراء محددين. فعندما كرر مفردات من تلك التي تحيل على قصيدة نزار قباني، مثلا، بل وأشار إليه مباشرة، وإلى حبيبته بلقيس، أدركت أن الحبيبة هنا، هي امرأة، وليست رمزا، لكنه حين أحال في احد الأبيات على قصائد لمظفر النواب، أدركت أن هناك تماساً بين المرأة المخاطبة، وما تمثله من رمز يتعدى دورها كامرأة لتصل إلى التماهي مع الوطن: "وحين تستحمين/ بصوتي المبحوح على الهاتف/ أعلنك حبيبتي/ بشعر ينساب لنزار/ أو مظفر/ ليجرح حنجرتي أكثر/ استحمقت أكثر/ نشدت أن أكون قربك/ فنذوب كقطعتي سكر/ حمى كنت أطالها شغف/ فطالتني بقايا تخلف هذا المكان/ وسيتمرغ وجهنا في ترابه/ احياء قبل/ الموت أو الولادة".
يهجو كاتب النص نفسه واصفا ذاته بالحماقة، إما لأنه أحب فتاته تلك، وإما لأنه تخاذل عند رحيلها، ولم يمنعها أو يقنع نفسه برفقتها، وإما لأنه صدّق شعارات الوطن والعروبة البراقة. وبين آن وآخر يضع صورا نقدية رمزية لما يكرهه من زيف يراه من حوله، تتحول عندها نبرته إلى لون من الصراخ. كما يعكس صراعه على حافة البقاء والرحيل في مكان يشعر انه فقد كثيرا من أصالته التي يصفها الكاتب لاحقا كسمات شخصية له هو الرجل العربي، وصراعه مع الأقنعة التي يضطر لارتدائها أحيانا لمواجهة ذلك الزيف. ولكن من دون أن يفقد الحلم: "سأحلم الليلة بك/ سفينة راحلة/ تحمل البخور من بلاد بعيدة/ وأنا على رصيف المرفأ/ أبكيها/ أحاول جاهدا أن أستنشق/ بقايا عبق/ لم أجرؤ على استبقائه/ ولم أجرؤ على الرحيل معه/ خوفا من المغامرة/ أو تملقا لعادات مجتمع رديء".
تراوح مستويات الصور الشعرية في النص بين مكثفة، جديدة، ومبتكرة، جمالياتها تتولد احيانا من تناقضاتها، وبين صور أخرى مباشرة، ومعادة. واظن أن ذلك يعود الى روح النص المتردد في إعلان هويته تماما كما فعل المحب الذي بكى حبيبته في المرفأ.
لم يعلن الكندري نوع النص خوفا من ان يصفه بالشعر فلا يكون شعرا، ولا بالكتابة الحرة تخوفا من أن يقضي على طابعه الشعري، وهذه خطيئة الكتاب، التي اظن أن الكاتب لو كان قد حسمها لحسم العديد من الجمل المكسورة والتعبيرات المباشرة التي تضمنها النص. لو أن الكاتب انتصر للشعر لانتصر له الشعر، ولو انتصر للسرد لانتصر له الأخير، لكنه قرر ان يقف على الحافة فجاء النص أيضا بين بين. تماما كما هو مضمون الكتاب الذي يصف حماقة محب اضاع حبيبته، فراح يرثيها. مع ذلك فقد أخلص الكندري في العديد من مقاطع النص لنوع من الإيقاع المستلهم من قصيدة التفعيلة، كما كشفت العديد من العبارات ثقافته، وخصوبة خياله في تركيب صور شعرية مكثفة وعميقة ومعبرة في غير موضع: "أفقد عقالي الذي على الرأس/ والذي على الدابة/ أفقد حتى خوفي من نص/ يأخذني إلى اليم/ لأضم بكل جوارحي غرقي/ حين اللمس/ أختزل كل هوياتي/ لأغزل شال هدية لرقبتي".
قدّم للكتاب الدكتور مختار أبو غالي، وأظنه اجتهد في ما كتبه، لكني بشكل شخصي ضد فكرة التقديم، فالنص عادة لا يحتاج الى من يقدمه الى القارئ، فتفاعله أولا واخيرا، ومهما تكن قراءة المقدم، سيكون مع نص الكاتب، ووفقا لذوق القارئ.
الكتاب تجربة يعلن بها الكندري قدرته على إيجاد لغة خاصة به، وأظنه أيضا نصا يعد بكتابة نصوص أخرى اكثر عمقا وتركيبا، لكني فقط اتمنى أن يحدد هويتها الأدبية من البداية، حتى تكشف نفسها له هي أيضا، وتأخذه إلى أقاصي ما يبتغي أن يعبّر عنه شعرا او نثرا.
.........
رأيت هذا الكتاب أكثر من مرة، واكتشفت، في كل مرة جديدًا. ففي القراءة الأولى كنت فقط أحاول تحديد النوع الذي ينتمي اليه الكتاب الصادر عن "دار العين"، فمؤلفه الكاتب الكويتي إبراهيم الكندري، لم يحدد ذلك على الغلاف، وترك المهمة للقارئ على ما يبدو. قرأته أولا بوصفه كتابة حرة، لا تخضع لقانون أو ثوابت، وربما تميل الى التجريب، لكن غموض بعض المعاني والكلمات جعلني أشعر بأنه نص يستعير من الشعر اكثر من غيره، وفي النهاية لم يكن لديَّ شك في أن الكتاب قصيدة نثرية طويلة بالاسم نفسه "من وحي الحماقة".
في القراءة التالية حاولت أن أفهم طبيعة الأنثى التي يوجه إليها الكاتب خطابه الشعري، فلوهلة تبدو الأنثى هنا كحبيبة، عاشقة، ملهمة، يعبّر عن عشقه لها، حينا، ويصف مشاعره الحسية تجاهها، أحيانا، ويشكو إليها همّه، تارة، ويهجو نفسه تارة أخرى، مرتبكا، لاعنا حماقته التي جعلته يتخاذل في مرافقة الحبيبة إلى حيث رحلت بعيدا. بمعنى أن الحبيبة التي يتوجه إليها النص تظل على حافة كونها رمزا لوطن، أو معنى عميقا، أم كونها أنثى حقيقية، من دم ولحم، تستثير مشاعره ورغبته. لكنه التباس يمكن أن يقرأ على أكثر من مستوى، بمعنى القراءة المباشرة لقصة حب، أو قراءة أخرى لعلاقة مركبة بين فرد في صراعه مع محيط يشعر تجاهه بالغبن، ربما، او بالحب الذي يولّد نقدا لكل سلبيات ذلك المحيط كوطن أو كمجتمع أو ككيان يحدد الهوية.
هذا الالتباس تتسبب به تركيبات لصور تحتمل أكثر من تأويل، وأحيانا إحالات على شعراء محددين. فعندما كرر مفردات من تلك التي تحيل على قصيدة نزار قباني، مثلا، بل وأشار إليه مباشرة، وإلى حبيبته بلقيس، أدركت أن الحبيبة هنا، هي امرأة، وليست رمزا، لكنه حين أحال في احد الأبيات على قصائد لمظفر النواب، أدركت أن هناك تماساً بين المرأة المخاطبة، وما تمثله من رمز يتعدى دورها كامرأة لتصل إلى التماهي مع الوطن: "وحين تستحمين/ بصوتي المبحوح على الهاتف/ أعلنك حبيبتي/ بشعر ينساب لنزار/ أو مظفر/ ليجرح حنجرتي أكثر/ استحمقت أكثر/ نشدت أن أكون قربك/ فنذوب كقطعتي سكر/ حمى كنت أطالها شغف/ فطالتني بقايا تخلف هذا المكان/ وسيتمرغ وجهنا في ترابه/ احياء قبل/ الموت أو الولادة".
يهجو كاتب النص نفسه واصفا ذاته بالحماقة، إما لأنه أحب فتاته تلك، وإما لأنه تخاذل عند رحيلها، ولم يمنعها أو يقنع نفسه برفقتها، وإما لأنه صدّق شعارات الوطن والعروبة البراقة. وبين آن وآخر يضع صورا نقدية رمزية لما يكرهه من زيف يراه من حوله، تتحول عندها نبرته إلى لون من الصراخ. كما يعكس صراعه على حافة البقاء والرحيل في مكان يشعر انه فقد كثيرا من أصالته التي يصفها الكاتب لاحقا كسمات شخصية له هو الرجل العربي، وصراعه مع الأقنعة التي يضطر لارتدائها أحيانا لمواجهة ذلك الزيف. ولكن من دون أن يفقد الحلم: "سأحلم الليلة بك/ سفينة راحلة/ تحمل البخور من بلاد بعيدة/ وأنا على رصيف المرفأ/ أبكيها/ أحاول جاهدا أن أستنشق/ بقايا عبق/ لم أجرؤ على استبقائه/ ولم أجرؤ على الرحيل معه/ خوفا من المغامرة/ أو تملقا لعادات مجتمع رديء".
تراوح مستويات الصور الشعرية في النص بين مكثفة، جديدة، ومبتكرة، جمالياتها تتولد احيانا من تناقضاتها، وبين صور أخرى مباشرة، ومعادة. واظن أن ذلك يعود الى روح النص المتردد في إعلان هويته تماما كما فعل المحب الذي بكى حبيبته في المرفأ.
لم يعلن الكندري نوع النص خوفا من ان يصفه بالشعر فلا يكون شعرا، ولا بالكتابة الحرة تخوفا من أن يقضي على طابعه الشعري، وهذه خطيئة الكتاب، التي اظن أن الكاتب لو كان قد حسمها لحسم العديد من الجمل المكسورة والتعبيرات المباشرة التي تضمنها النص. لو أن الكاتب انتصر للشعر لانتصر له الشعر، ولو انتصر للسرد لانتصر له الأخير، لكنه قرر ان يقف على الحافة فجاء النص أيضا بين بين. تماما كما هو مضمون الكتاب الذي يصف حماقة محب اضاع حبيبته، فراح يرثيها. مع ذلك فقد أخلص الكندري في العديد من مقاطع النص لنوع من الإيقاع المستلهم من قصيدة التفعيلة، كما كشفت العديد من العبارات ثقافته، وخصوبة خياله في تركيب صور شعرية مكثفة وعميقة ومعبرة في غير موضع: "أفقد عقالي الذي على الرأس/ والذي على الدابة/ أفقد حتى خوفي من نص/ يأخذني إلى اليم/ لأضم بكل جوارحي غرقي/ حين اللمس/ أختزل كل هوياتي/ لأغزل شال هدية لرقبتي".
قدّم للكتاب الدكتور مختار أبو غالي، وأظنه اجتهد في ما كتبه، لكني بشكل شخصي ضد فكرة التقديم، فالنص عادة لا يحتاج الى من يقدمه الى القارئ، فتفاعله أولا واخيرا، ومهما تكن قراءة المقدم، سيكون مع نص الكاتب، ووفقا لذوق القارئ.
الكتاب تجربة يعلن بها الكندري قدرته على إيجاد لغة خاصة به، وأظنه أيضا نصا يعد بكتابة نصوص أخرى اكثر عمقا وتركيبا، لكني فقط اتمنى أن يحدد هويتها الأدبية من البداية، حتى تكشف نفسها له هي أيضا، وتأخذه إلى أقاصي ما يبتغي أن يعبّر عنه شعرا او نثرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق