الأحد، 4 يناير 2009

من كتاب "توابع الفتنة الكبرى ": مقدمة الابن عمر الخالدي

كان الدكتور أبو النصر محمد الخالدي عالمًا هنديًا رائدًا من حيدر آباد، وكان متخصصًا في التاريخ الإسلامي والهندي। وُلد أبو النصر محمد الخالدي عام ١٩١٦ من عائلة ينحدر نسلها من الجنود الذين رافقوا الألف والأربعمئة وليّ الذين جلبوا من دلهي إلى هضبة الدكن في القرن الرابع عشر, عندما أمر السلطان محمد طغلق بنقل هذه النخبة من العاصمة دلهي إلى دولة آباد في جنوب الهند. لم يُعرف الكثير عن العائلة حتى القرن التاسع عشر. في فترة حكم نواب ناصر الدولة (١٨٢٩-١٨٥٧), كان جد أبي النصر عبدالله حيدر خان وحاكم حيدر آباد جنديًا في الجيش, لكنه ترك الخدمة الحكومية وبدأت ثروات العائلة في الانحدار.كان ابنه حسين خان, وابن حسين خان كان محمد علي الذي اشتهر باسم كلان خان وكان تاجرًا. بعد أن حج كلان خان إلى مكة في ١٨٧٠, وفي طريق العودة تخلى عن الحياة العامة النشطة وسلك طريقًا روحانيًا. عُرف بعد ذلك باسم كال شاه وكان له ابنان, محمد حسين خان وأحمد خان وكان الأول هو والد الخالدي. ومن أجل أن يعول أولاده الأربعة عشرة أدار محمد حسين خان محلاً صغيرًا في لاد بازار, قرب منطقة شار مينار في حيدر آباد؛ لكن عددًا من أولاده ماتوا في الصغر نتيجة الفاقة. كان أبو النصر واحدًا من بين أربعة أولاد بقوا, وسُمِّي في الأصل محمد شرف الدين على اسم مولانا بابا شرف الدين عراقي؛ والذي عرف بأنه وصل الهند قادمًا من بغداد. في هذا الوقت وصل أحد الرماة المسلمين ويسمى غلام رسول خان من راجبوتنا إلى حيدر آباد. بعد أن تزوج من امرأة من حيدر آباد ولم ينجب منها قام بتبني أبي النصر. وفرَّ الابوين بيئة تربوية للولد.

تعليمه

درس أبو النصر في مدرسة محلية حتى الصف السابع, وأدى نجاحه في الأردو إلى دراسة الفارسية بتشجيع من عمه بالتبني. بعد وفاة والده بالتبني وعودته إلى عائلته اضطر أبو النصر إلى ترك المدرسة؛ لكنه درس في مسجد شوك. في ١٩٢٦ التقى أبو النصر بأحد شعراء الأردو المعروفين وكان اسمه صفي أورنكـَ آبادي. وبمساعدة من الشاعر التحق أبو النصر بمدرسة دار العلوم وحصل على شهادته المؤهلة للجامعة عام ١٩٢٨. في هذا الوقت سماه صفي أورنكـَ آبادي بأبو النصر نتيجة لتفوقه وتفانيه, وكان الاسم كناية عن الفيلسوف وعالم الرياضيات الفارابىَّ, وكان هذا هو الاسم الذي أطلقه عليه أيضًا زملاؤه في حياته بعد ذلك. كان حبه للتاريخ الإسلامي سببًا في أن أطلق عليه أحد معلميه لقب الخالدي, كتشريف له باسم القائد العربي خالد بن الوليد.

حصل أبو النصر على شهادة البكالوريوس من الجامعة العثمانية عام ١٩٣٤ وعمل كمدرس خاص للعديد من العائلات. وبالرغم من نصح الكثير له بالعمل في مجال الحقوق؛ إلا أن حبه للتاريخ الإسلامي قاده لاحقًا إلى الدراسة مع مولوي جميل الدين أحمد (توفي عام ١٩٥٦), وهو هندوسي الأصل دخل في الإسلام، وأصبح عالمًا فذًا في العربية والفارسية بالإضافة إلى عمله كقاضي. شجع جميل الدين أحمد؛ الذي عرف باسم "راجا حضرت", أبا النصر على دراسة القرآن والصوفية, وبتأثير منه دخل أبو النصر الصوفية على يدي الشيخ محمد حسين (توفي عام ١٩٤٥) وهو أحد تابعي مشالي ولي شاه (توفي عام ١٩٢٣). حصل أبي النصر خلال هذا الوقت على درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي عام ١٩٣٦, وبعد أن اتبع تعاليم ونصائح رجل تقي يدعى سيد نظام الدين(1), تزوج أبو النصر من ابنته خير النساء زبيدة عام ١٩٣٨. انحدر نسل عائلة سيد نظام الدين من سيد حبيب الله شاه (توفي عام ١٦٣١) وهو أحد أولياء بيجابور المعروفين. وكان من علامات الاحترام البالغ الذي كنه سيد نظام الدين للخالدي أن وافق على تزويج ابنته من غير سيد, كما كانت العادة في الهند.

في عام ١٩٣٩, عانى أبو النصر من خسارة شخصية حين توفي حموه سيد نظام الدين. وحين سارت جنازته قرب قبر سيد محمد محمود مكي في كيشان باغ, ذهل أبو النصر من عدد المتشيعين، حتى أنه رقد في القبر للحظة بجانب حماه المتوفى, وقال زوج ابنته خواجه معين الدين عزمي أنه كان يحتذي بالرسول عندما حضر جنازة زوجته السيدة خديجة. في هذه الفترة احتل أبو النصر مركزه في دار الترجمة بالجامعة العثمانية وتفانى في إنتاج النسخ الأردية من الأعمال الكلاسيكية من كلا اللغتين العربية والإنجليزية. وهناك خالط أبو النصر مشاهير الأدب الأردي مثل مولوي عبد الحق (المتوفى عام ١٩٦١) وسيد أبو الخير المودودي (توفي عام ١٩٧٩) ومن خلاله قابل العالم الإسلامي سيد أبو العلاء المودودي (توفي عام ١٩٧٩) الذي تجادل معه واتفق. وحين خلت وظيفة في قسم التاريخ بالجامعة العثمانية عام ١٩٤٢, تم توظيف أبي النصر ليحل محل المدرس السابق المولوي جميل عبدالرحمن. بقي أبو النصر في هذه الوظيفة حتى تقاعده عام ١٩٧٦.

حياته في القاهرة

في يوليو من عام ١٩٤٦ عرضت حكومة نظام حيدر آباد على أبي النصر فرصة الدرسات العليا في القاهرة كي يحسن من لغته العربية ويتقنها. وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) عام ١٩٥٠, وكان بحثه عن القائد الشيعي المختار بن عبيد الثقفي الذي توفي عام ٦٨٦ من الميلاد, وكان المشرف على رسالة الدكتوراه البروفيسور حسن إبراهيم حسن. وهذا الكتاب هو رسالة الدكتوراه التي قدمها الخالدي عن المختار إلى جامعة فؤاد عام ١٩٤٩. كان هذا كتابه الوحيد باللغة العربية وباقي ما نشره كان بالأردية. كان اختياره للغة الأردية دائمًا عن عمد؛ حيث أراد أن يثري لغته الأم؛ فقد قال أبو النصر ذات مرة أن الكتابة بالإنجليزية كانت أكثر ربحًا, لكن الكتابة بلغته الأم كانت أهم واكثر إرضاءً.

كانت بيئة القاهرة الفكرية والأكاديمية في الأربعينيات متألقة بشخصيات مرموقة مثل طه حسين, وخالد محمد خالد, وحسن البنا شهيد (١٩٠٦-١٩٤٩) وآخرون. استغل أبو النصر وقته لأقصى حد في حَّضور محاضرات هذه الشخصيات اللامعة والتقى بالدارسين من أجزاء العالم العربي المختلفة، وأيضًا بزيارة الأكاديميين من أمريكا الشمالية مثل دبليو سي سميث (١٩١٦-٢٠٠٠)، وكان يصلي كل جمعة في مسجد مختلف لكي يرتوي من نبع العمارة الإسلامية في المدينة العامرة بالآثار من مختلف العصور والطرازات. لم تُصقَل لغته العربية فحسب بل وتحسنت أيضًا معرفته بالتاريخ الإسلامي من المصادر العربية. وخلال معيشته في القاهرة تدهور الحال السياسي في بلده حيدر آباد بسبب إصرار حكومة الهند أن تنضم لها حيدر آباد بعد أن كانت دولة مستقلة. وبمجرد أن رفض النظام الحاكم لحيدر آباد ذلك؛ فرضت الهند العقوبات الاقتصادية عليها في ١٩٤٨. وكان للعقوبات الاقتصادية على بلده تأثير بالغ لدرجة أثرت على الطالب الفقير الذي يعيش بعيدًا عن بلاده. توقفت منحته وانقطع المرتب الذي يصل عائلته في حيدر آباد مما تسبب في مشاق كبيرة. وخلال هذه الصعاب التي عاناها أبو النصر, آتاه العون من الحاج سيد أمين الحسيني (١٨٩٥-١٩٧٤) مفتي فلسطين. وتذكر المفتي الذي زار حيدر آباد العديد من المرات في الثلاثينيات والأربعينيات حب المسلمين الذي قابله في زيارته, والمعونات الكبيرة التي أعطاها له والي حيدر آباد من أجل شراء الأراضي الفلسطينية لكي يمنع الاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة بفلسطين. كان المفتي شخصيًا في المنفى بعيدًا عن فلسطين وكان يعيش في القاهرة حينها, وفر المفتي المال لأبي النصر كي يتعايش مع الظروف القاسية التي فرضتها حكومة نهرو. وانتهت معاناته عندما انتهت حرب الهند ضد حيدر آباد بهزيمة الوالي في سبتمبر ١٩٤٨. وعندما رجع إلى بلاده واصل مهامه في الجامعة العثمانية.
ما نشر من أعماله

تعددت أعمال أبي النصر وتحددت في ثلاث مواضيع: التاريخ الإسلامي والعصور الوسطى في الهند, والدراسات القرآنية والآدب الإسلامي في اللغة الأردية। حتى قبل أن ينتهي من رسالة الدكتوراه قام بنشر العديد من الترجمات للأعمال الإنجليزية الكلاسيكية عن التاريخ الإسلامي باللغة الأردية. لم تنشر العديد من أعماله في حياته نظرًا لفقر النشر العلمي في الهند. في ١٩٧٥, وصى الخالدي عائلته بنشر كتاباته وأعماله, وعملاً بوصيته نشرت عائلته سبع كتب له بين ٢٠٠٢ و٢٠٠٦ حول الدراسات القرآنية, بالأردو الدكني وأيضًا تراجم لشخصيات مهمة ومعروفة من التاريخ الهندي والإسلامي مع الإشارة إلى أعمالهم الأصلية. في حياته تم نشر أربعة من كتبه. وقد كتب محمد حميد الله (١٩٠٨-٢٠٠٢), وهو عالم مشهور كتب بالعربية والأردية وعدد من اللغات الأخرى, تعريفًا وشرحًا لكتاب أبي النصر.
...............
مقدمة الابن عمر الخالدي
لكتاب توابع الفتنة الكبرى
لمؤلفه :د.أبو النصر عمر الخالدي

ليست هناك تعليقات: