انطلقت على مدى السنوات القليلة الماضية داخل المجتمع الأكاديمي تكهنات بشأن الصراع الثقافي الدولي الوشيك أو المحتمل। وجاءت هذه التكهنات بوجه خاص على لسان جوهان جالتونج وصمويل هنتنجتون. ونلاحظ هنا أن الثقافات أو المناطق الثقافية أي الحضارات يجري تصويرها دائمًا باعتبارها مناطق اجتماعية مستقلة أو حتى قوى فاعلة رئيسية في السياسة الدولية. والملاحظ أيضًا أن تلك الافتراضات الزاعمة بأن الثقافة تمثل جوهرًا ثابتًا هي التي تحدد طابع الخطاب حتى في الحوار الثقافي اليومي المعني بالصراع بين الثقافات بدرجة أقل من اهتمامه بشن غزوة تعاونية دفاعا عن نقاط التماس الثقافي. وهكذا فإن معالجة الثقافات باعتبارها هياكل جامدة هو ما يفسر لماذا يجري التعامل في كل من الخطاب الأكاديمي والخطاب اليومي مع "الكونفوشية" و"الهندوسية" و"الإسلام" وكذا "الثقافة الغربية" باعتبارها وبشكل مطلق حضارات متمايزة أو مناطق ثقافية متمايزة، وكأنها ظواهر يمكن تحديدها والتعرف عليها في سهولة ويسر. وأكثر من هذا أننا نجد داخل المحافل الدبلوماسية الدولية، أن الافتراضات الزاعمة بجوهرية الثقافة هي السائدة دائمًٍا وأبدًا في الحوار الثقافي الدائر بشأن القيم "الآسيوية" و"الإسلامية" وكذا الغربية. وتجري مقارنة الكيانات الثقافية التي تبدو في ظاهرها متجانسة ومتسقة؛ بل وإبراز أحدها ضد الآخر – بأسلوب لا يختلف عن الأسلوب المتبع في الحوار الدولي بشأن حقوق الإنسان.
وهذا التناول يمكن فهمه في حدود أنه ييسر استطلاع وبيان ما من شأنه أن يكون بدون ذلك خليطًا من معلومات توضيحية يتعذر سير تحدرها بالكامل – أي بيانات وفيرة للغاية عن شواهد ثقافية بارزة هي حصاد التاريخ البشري برمته – أي أن هذا التناول يساعدنا على تصنيف ما هو غير مألوف في صورة فئات أبسط وأيسر للفهم قدر الإمكان.
وكم هو مغر في هذا الإطار أن نستخدم مصطلحًا مثل "الكونفوشية" الذي يقال إنه يمثل كل حضارة شرق آسيا، ومن ثم "نتجاوز" كل سلسلة المعتقدات المتناقضة والمحددة للثقافات والتي كانت يومًا ما سبب عداوات مرة (والتي لا تزال آثارها باقية جزئيًا ومحسوسة حتى اليوم)، وهكذا يصبح مصطلح الهندوسية مصطلحًا جامعًا؛ أي تعسفيًا بصورة واضحة ومصطنعًا في ضوء ما له من خلفية ثقافية غنية. ويصبح الإسلام بدوره كتلة متجانسة صماء (ولهذا السبب وحده يجري تفسيره على أنه خطر) على الرغم أنه من المسلَّم به لدى أصحاب النظرة المحايدة أنه يتألف من فرق وأحزاب غلب التطاحن بينها على علاقاتها الودية. واللافت للنظر هنا أيضًا الصورة الذاتية التقليدية عن "الغرب" والتي طالما تبناها غير الغربيين كثيرًا دون تأمل وتفكير؛ إذ يجري تصوير الغرب على أنه ثقافة يجسدها، حسب الزعم السائد، التنوير والنزعة الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الكلمة والتعبير والتعددية وحرية الضمير والمساواة بين الجنسين وغير ذلك. بيد أن النزعتين العقلانية والليبرالية في أوروبا كان لزامًا عليهما الصراع ضد التقليد، ولم تتحقق لهما السيادة إلا في فترة متأخرة نسبيًا وبصعوبة بالغة. وهذه حقيقة يغفلها كل من الأوروبيين وغير الأوروبيين في تصورهم للواقع والتاريخ مثل حقيقة أن التنوير أفضى إلى ظهور تيارات فكرية وسياسية قوية مناهضة للتنوير ومناهضة للحداثة. ويمثل هذا كله جزءًا من الواقع الأوروبي مثلما هو جزء من التنوير نفسه.
وتأسيسًا على هذه المقدمات سيبدو واضحًا أن الجدل الثقافي الدولي الدائر حاليًا غير مثمر، ذلك لأن الفرض القائل بوجود رؤى عن الكون ونواميسه (رؤى كوزمولوجية) راسخة مكينة ومختلفة عن بعضها أشد الاختلاف داخل الأعماق الروحية لكل حضارة إنما هو فرض غير واقعي تمامًا(2). وجدير بالذكر أن الحقيقة الواقعة تتجلى للمراقب المحايد في صورة مختلفة للغاية بوسائل عدة:
أولًا: الاختلافات، إن لم نقل الصراعات الداخلية، كانت قسمة مميزة لجميع الثقافات التقليدية قبل أن تعاني، وبزمن طويل، من ضغوط الحداثة الواردة من الخارج أو النابعة من الداخل. مثال ذلك أن الفلسفة الصينية، وقبل اختزالها فكريًا إلى "كونفوشية" الدولة، ازدهرت في داخلها بنية لمدرسة فكرية. كذلك الفكر البوذي الأصيل ما كان له أن تتضح صورته قبل تنوعه على نطاق واسع من خلال انتشار تعاليمه. كذلك الحال بالنسبة للهندوسية؛ إذ منذ بداية ظهورها وتعددية الآراء، خاصة ما يتعلق منها بالإلهيات تمثل قسمة أصيلة فيها. وجدير بالذكر أن مثل هذه التعددية لا يعرفها الإسلام؛ إذ أنه دين قائم على الوحي. ولكن هذا الدين اتسم أيضا وعلى نحو دائمً بوجود انشقاقات عميقة وتعدد واختلاف المدارس الفقهية. وبدأت في الغرب أيضًا منذ مرحلة باكرة عملية اختلاف روحاني بلغت ذروتها في النصف الثاني من القرن العشرين، ودعم الاختلاف بقوة ما شهده الغرب من نتائج لمرحلة غير مسبوقة من التحديث المجتمعي والاقتصادي والثقافي والسياسي.
ولم تكن عملية الاختلاف في الأشكال التقليدية لكل ثقافة على حدة مجرد عملية عرضية أو هامشية بأي حال من الأحوال؛ بل كانت تمثل عنصرًا جوهريًا في عملية تأكيد الذات ثقافيًا ودينامية تطورها؛ إذ بدون المواجهات الثقافية الحادة بشأن المبادئ الأساسية لكل ثقافة من هذه الثقافات – والتي تتجلى في صورة نزاعات بين مدارس الفكر المختلفة لأبنائها، كان من الممكن للبيِّنات الثقافية الأصلية التي تشكل النواة البللورية للعمليات التالية أن تبقى مجرد رؤى ذات أهمية محلية خالصة أو ربما غيبها النسيان. لذلك كان الصراع جزءًا متكاملًا، ونتيجة لها آثارها وتجلياتها بعيدة المدى بالنسبة لجميع الثقافات البارزة. إذ ساهم الصراع – وإن بدرجات متفاوتة – في تطور الوعي بالذات داخل الثقافات التقليدية، كما ساهم أيضًا بمعنى ما في تأمل واستبطان الذات(3). وخير مثال يوضح هذا بصورة مذهلة، وإن بدت غير شاملة، هو الفلسفة الصينية الكلاسيكية التي يمكن وصفها بأنها خلاف دائم أبدًا بشأن القضايا الأساسية المتعلقة بالنظام العام.
ثانيًا: أوروبا هي أول حضارة تواجه تحديات التحديث المادية والفكرية معًا. وإذا نظرنا إلى التطور التاريخي للحضارة الأوروبية، أو للجزء الغربي من أوروبا على الأقل من منظور مقارن سيظهر لنا وكأنه حالة استثنائية – حتى ليكاد المرء أن يقول إنه معجزة(4). إذ يلاحظ أن أوروبا على خلاف الحضارات الكبرى غير الأوروبية لم تمض في مسارها عبر الطريق المسدود النمطي للتطور الذي سارت فيه الإمبراطوريات القديمة وثقافاتها .نمت دينامية أوروبا من القاعدة إلى القمة من خلال أعداد كبيرة من قوى اجتماعية صغيرة ومتنافسة. ولم تكن القوى ذات الهيمنة والقدرة على الجذب تحت سلطتها تتمتع بقوة أكبر، إلا بصورة متقطعة بين الحين والآخر. وظلت كقاعدة ضعيفة نسبيًا مما ساعد الأمة – الدولة الكلاسيكية على الوصول إلى إنجازها الأخير ولكن بعد مئات السنين. وبذلت كل من هذه القوى الدينية أو الدنيوية التي كانت إلى حد ما صغيرة مفتَّتة جهودًا مميزة لتحقيق الاستقلال الذاتي سواء منها الأسر الإمبراطورية أو الملكية والارستقراطيات الرفيعة أو الدنيا وطبقات الفلاحين والمحليات والقوى الاقليمية أو الأوسع نطاقًا من الإقليمية والقوى الدينية المحلية (مثل من يشغلون مناصب بابوية أو أسقفية أو رهبانية). وجدير بالذكر أن تقسيم القوى السياسية والمنافسات الناجمة عن ذلك ساعد في مرحلة باكرة على الحيلولة دون ظهور حالات المركزية المفرطة غير الملائمة التي كان بالإمكان مشاهدتها (ولو على نحو دوري في أغلب الحالات) في الإمبراطوريات القديمة غير الأوروبية. ويعتبر هيكل أوروبا في فتراته الباكرة والكلاسيكية والإقطاعية حسب المعايير السائدة آنذاك هيكلًا متخلفًا وهامشيًا(6). والملاحظ أنه قبل أن يهيمن الاقتصاد التنافسي الحديث بقرون (وهو الرأسمالية التنافسية) كانت المنافسة السياسية هي التي تصوغ شكل التطور الأوروبي وذلك من خلال المعارك الكثيرة التي بدأت في صورة نزاعات وصراعات صغيرة ثم تحولت تدريجيًا إلى صراعات سياسية إقصائية(7). ولكن لم تقع هذه الصراعات على مستوى القارة كلها أبدًا وإنما ظلت على مستوى محلي، وكانت تفضي بين حين وآخر إلى انتصار الطرف الأقوى. وحدث كثيرًا جدًا حين كانت الانتصارات محدودة ويعقبها تعادل بين القوى المتصارعة أن أدت إلى سياسة مصالحة وتوفيق سياسي – أي إلى مجموعة من "الضوابط والموازنات" على نحو ما نرى في الوثائق الأوروبية الشهيرة مثل الماجنا كارتا عام 1215م، وهكذا كانت التعددية قبل الحداثة، وقبل التنوير بزمن طويل هي جوهر وروح الواقع الأوروبي.
ويمكن القول إلى حد ما إن المنافسة السياسية في أوروبا قبل الحداثة كانت لها أيضًا آثار إيجابية على الإمكانات الإبداعية للمجتمعات المعنيّة. وصادف الإبداع تشجيعًا من التطور الذي حدث بعد هذا للاقتصاد التنافسي الذي امتد ليشمل كل المعمورة وليصبح أخيرًا ظاهرة كوكبية، بحيث جعل المنافسة الاقتصادية المنطق الجوهري الأصيل للمنظومات الاجتماعية. وهكذا ظهر تدريجيًا، خطوة بخطوة، نمط المجتمع الحديث الذي يحدد اليوم طبيعة الحياة في جميع المجتمعات الغربية وإن كان من المحتمل أنه الآن في سبيله إلى التفكك.
وتتجلى نتيجة هذا التحول الممتد من المجتمعات الأوروبية التقليدية إلى المجتمعات الحديثة في موجة شاملة من التحرر البشري ليس لها نظير في تاريخ الإنسانية. وهذا أيضًا من الناحية التاريخية حدث تنفرد به أوروبا. ولزم عن هذا التحرر اختلاف متسارع وغير مسبوق في الثقافة الأوروبية. وهذه نتيجة منطقية تعادل الآثار المهمة التي كانت لعملية الاختلاف الثقافي السابقة على التحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومن ثم يبدو الانتقال إلى الحداثة أشبه بسلسلة سببية دورانية وتراكمية.
وإذا نظرنا إلى هذا التحول الذي شهدته أوروبا من منظور بعيد المدى نجد أن له آثاره العميقة والشاملة بحيث كان من المستحيل التكهن بتطور أوروبا خلال الفترة التالية في ضوء تاريخها السابق. وإذا نظرنا إلى الأحداث الماضية بعد وقوعها نجد ما يغرينا بقوة لافتراض حدوث تطور خطي المسار للثقافة الأوروبية – ولكن الشيء الذي لا خلاف عليه هو أن التطور الأوروبي اتسم بالانقطاعات والابتكارات.
ثالثًا: حققت أوروبا في مسارها الحداثي توسعًا استعماريًا وإمبرياليًا مما ترتب عليه نشوء هياكل تابعة لها. ونتيجة لهذا وقع العالم غير الأوروبي تحت ضغوط تحديثية من الخارج وإن تباينت أزمنتها ودرجاتها ذلك أن البعض وقع تحت هذه الضغوط في فترة باكرة بينما بعضها الآخر في فترة متأخرة(10). واستطاعت ضغوط التحديث هذه أن تسود نظرًا لضعف قوة مقاومة المجتمعات التقليدية. ومع هذا كانت المقاومة لافتة للأنظار على الرغم من قمعها بالقوة عادة.
إذ يلاحظ في كل أنحاء العالم غير الأوروبي أن الهزائم الفعلية والوشيكة أثارت ردود أفعال مضادة فكرية وسياسية।وتباينت نتيجة لذلك من حيث القضايا التي تؤكد عليها. ونجد أن من بين الخيارات المطروحة قضية محاكاة الغرب. وانعقد الأمل بذلك على اللحاق بالتطور الأوروبي، ثم إلحاق الهزيمة بعد ذلك بالغرب مستعينين بأسلحته. ونجد في مجتمعات كثيرة خيارًا آخر وهو إعادة التفكير من جديد في تراثها الخاص ومحاولة إحيائه وتجديده. وثمة خيار ثالث يتمثل في الجمع بين الاثنين الأولين بهدف الحفاظ على القيم الخاصة للمجتمعات مع العمل في الوقت نفسه على تبني التكنولوجيات والخبرات الجديدة. والخيار الرابع يعود إلى الظروف المواتية أكثر مما يعود إلى إرادة أصحابه: الابتكار باعتباره استجابة غير مسبوقة إزاء تحديات لا نظير لها.
وطبيعي أن الاستجابات في الواقع لم تكن كقاعدة عامة استجابات أحادية الخط والمسار؛ بل مزيجًا من المشروعات الفكرية المناهضة والممارسة السياسية. وكانت تعني جميعها من حيث الإدراك الذاتي للمجتمعات المعنيّة تحولًا عامًا للمجتمع. ويصدق هذا بخاصة بالنسبة للخيار الثاني أعني محاولة إحياء التراث ذلك لأن قيمة التراث هنا، على عكس الحال في المجتمعات التقليدية تخضع للفحص والتدقيق؛ مما يعني أنه لم يعد بالإمكان أخذها مأخذ التسليم. ونظرًا لأن أنصار كل اختيار من هذه الخيارات الثلاثة قيموا الموقف على نحو مختلف وحددوا لأنفسهم أهدافًا مختلفة فقد تصارعوا بالضرورة مع بعضهم بعضًا. وأشعل هذا فتيل الصراع الثقافي بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ حيث دارت حوارات ومعارك بشأن التنظيم الحديث للنظام العام، وأثارت بالحتم تساؤلات وقضايا خاصة بالثوابت الثقافية للمجتمعات التقليدية(12).
رابعًا: أصبح الجدل أكثر حدة واحتداما حيث جرت عمليات تحديث داخلية – أي اجتماعية واقتصادية نابعة من الداخل أو جرى عن عمد تقسيمها إلى مراحل نتيجة تحديات من الخارج। إذ أن هذه العمليات، حتى وإن كانت في أول عهدها هشة للغاية في غالب الأحيان إنما تمثل تكرارًا للتجربة الأوروبية؛ أعنى استحداث إطار مجتمعي حديث بدلًا عن التقليدي وبخاصة الهيكل الزراعي(13). ويلاحظ أنه حيثما عانى المجتمع من انهيار كمي درامي طويل الأمد في الزراعة – يبدأ أولًا بكميات صغيرة، ولكنه في بعض الحالات يزداد بمعدل مثير – تظهر طبقات اجتماعية حداثية مطابقة للمجتمعات الصناعية أو مجتمعات الخدمات: الإدارة العامة، وطبقة موظفي الدولة، ومنظمي المشروعات الخاصة والطبقات الوسطى والطبقات العاملة الصناعية، والآن حديثًا جدًا الطبقات المهنية التي ظهرت مع عملية التقدم الصناعي. وتتوافق هذه الطبقات الاجتماعية الجديدة مع قطاعات اجتماعية مختلفة لا تختلف كثيرًا عمًا هو حادث في أوروبا؛ حيث لكل طبقة مصالحها وهويتها الخاصة. وتقترن هذه العملية مباشرة بالتباين الثقافي. ونرى هذا التباين الثقافي مثله مثل المجتمعات الأوروبية مجسدًا في مجتمع يحظى بحراك اجتماعي متزايد مع تقدم عملية التحديث ويكتسب زخمًا خاصًا به.
وكم هو مغر في هذا الإطار أن نستخدم مصطلحًا مثل "الكونفوشية" الذي يقال إنه يمثل كل حضارة شرق آسيا، ومن ثم "نتجاوز" كل سلسلة المعتقدات المتناقضة والمحددة للثقافات والتي كانت يومًا ما سبب عداوات مرة (والتي لا تزال آثارها باقية جزئيًا ومحسوسة حتى اليوم)، وهكذا يصبح مصطلح الهندوسية مصطلحًا جامعًا؛ أي تعسفيًا بصورة واضحة ومصطنعًا في ضوء ما له من خلفية ثقافية غنية. ويصبح الإسلام بدوره كتلة متجانسة صماء (ولهذا السبب وحده يجري تفسيره على أنه خطر) على الرغم أنه من المسلَّم به لدى أصحاب النظرة المحايدة أنه يتألف من فرق وأحزاب غلب التطاحن بينها على علاقاتها الودية. واللافت للنظر هنا أيضًا الصورة الذاتية التقليدية عن "الغرب" والتي طالما تبناها غير الغربيين كثيرًا دون تأمل وتفكير؛ إذ يجري تصوير الغرب على أنه ثقافة يجسدها، حسب الزعم السائد، التنوير والنزعة الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الكلمة والتعبير والتعددية وحرية الضمير والمساواة بين الجنسين وغير ذلك. بيد أن النزعتين العقلانية والليبرالية في أوروبا كان لزامًا عليهما الصراع ضد التقليد، ولم تتحقق لهما السيادة إلا في فترة متأخرة نسبيًا وبصعوبة بالغة. وهذه حقيقة يغفلها كل من الأوروبيين وغير الأوروبيين في تصورهم للواقع والتاريخ مثل حقيقة أن التنوير أفضى إلى ظهور تيارات فكرية وسياسية قوية مناهضة للتنوير ومناهضة للحداثة. ويمثل هذا كله جزءًا من الواقع الأوروبي مثلما هو جزء من التنوير نفسه.
وتأسيسًا على هذه المقدمات سيبدو واضحًا أن الجدل الثقافي الدولي الدائر حاليًا غير مثمر، ذلك لأن الفرض القائل بوجود رؤى عن الكون ونواميسه (رؤى كوزمولوجية) راسخة مكينة ومختلفة عن بعضها أشد الاختلاف داخل الأعماق الروحية لكل حضارة إنما هو فرض غير واقعي تمامًا(2). وجدير بالذكر أن الحقيقة الواقعة تتجلى للمراقب المحايد في صورة مختلفة للغاية بوسائل عدة:
أولًا: الاختلافات، إن لم نقل الصراعات الداخلية، كانت قسمة مميزة لجميع الثقافات التقليدية قبل أن تعاني، وبزمن طويل، من ضغوط الحداثة الواردة من الخارج أو النابعة من الداخل. مثال ذلك أن الفلسفة الصينية، وقبل اختزالها فكريًا إلى "كونفوشية" الدولة، ازدهرت في داخلها بنية لمدرسة فكرية. كذلك الفكر البوذي الأصيل ما كان له أن تتضح صورته قبل تنوعه على نطاق واسع من خلال انتشار تعاليمه. كذلك الحال بالنسبة للهندوسية؛ إذ منذ بداية ظهورها وتعددية الآراء، خاصة ما يتعلق منها بالإلهيات تمثل قسمة أصيلة فيها. وجدير بالذكر أن مثل هذه التعددية لا يعرفها الإسلام؛ إذ أنه دين قائم على الوحي. ولكن هذا الدين اتسم أيضا وعلى نحو دائمً بوجود انشقاقات عميقة وتعدد واختلاف المدارس الفقهية. وبدأت في الغرب أيضًا منذ مرحلة باكرة عملية اختلاف روحاني بلغت ذروتها في النصف الثاني من القرن العشرين، ودعم الاختلاف بقوة ما شهده الغرب من نتائج لمرحلة غير مسبوقة من التحديث المجتمعي والاقتصادي والثقافي والسياسي.
ولم تكن عملية الاختلاف في الأشكال التقليدية لكل ثقافة على حدة مجرد عملية عرضية أو هامشية بأي حال من الأحوال؛ بل كانت تمثل عنصرًا جوهريًا في عملية تأكيد الذات ثقافيًا ودينامية تطورها؛ إذ بدون المواجهات الثقافية الحادة بشأن المبادئ الأساسية لكل ثقافة من هذه الثقافات – والتي تتجلى في صورة نزاعات بين مدارس الفكر المختلفة لأبنائها، كان من الممكن للبيِّنات الثقافية الأصلية التي تشكل النواة البللورية للعمليات التالية أن تبقى مجرد رؤى ذات أهمية محلية خالصة أو ربما غيبها النسيان. لذلك كان الصراع جزءًا متكاملًا، ونتيجة لها آثارها وتجلياتها بعيدة المدى بالنسبة لجميع الثقافات البارزة. إذ ساهم الصراع – وإن بدرجات متفاوتة – في تطور الوعي بالذات داخل الثقافات التقليدية، كما ساهم أيضًا بمعنى ما في تأمل واستبطان الذات(3). وخير مثال يوضح هذا بصورة مذهلة، وإن بدت غير شاملة، هو الفلسفة الصينية الكلاسيكية التي يمكن وصفها بأنها خلاف دائم أبدًا بشأن القضايا الأساسية المتعلقة بالنظام العام.
ثانيًا: أوروبا هي أول حضارة تواجه تحديات التحديث المادية والفكرية معًا. وإذا نظرنا إلى التطور التاريخي للحضارة الأوروبية، أو للجزء الغربي من أوروبا على الأقل من منظور مقارن سيظهر لنا وكأنه حالة استثنائية – حتى ليكاد المرء أن يقول إنه معجزة(4). إذ يلاحظ أن أوروبا على خلاف الحضارات الكبرى غير الأوروبية لم تمض في مسارها عبر الطريق المسدود النمطي للتطور الذي سارت فيه الإمبراطوريات القديمة وثقافاتها .نمت دينامية أوروبا من القاعدة إلى القمة من خلال أعداد كبيرة من قوى اجتماعية صغيرة ومتنافسة. ولم تكن القوى ذات الهيمنة والقدرة على الجذب تحت سلطتها تتمتع بقوة أكبر، إلا بصورة متقطعة بين الحين والآخر. وظلت كقاعدة ضعيفة نسبيًا مما ساعد الأمة – الدولة الكلاسيكية على الوصول إلى إنجازها الأخير ولكن بعد مئات السنين. وبذلت كل من هذه القوى الدينية أو الدنيوية التي كانت إلى حد ما صغيرة مفتَّتة جهودًا مميزة لتحقيق الاستقلال الذاتي سواء منها الأسر الإمبراطورية أو الملكية والارستقراطيات الرفيعة أو الدنيا وطبقات الفلاحين والمحليات والقوى الاقليمية أو الأوسع نطاقًا من الإقليمية والقوى الدينية المحلية (مثل من يشغلون مناصب بابوية أو أسقفية أو رهبانية). وجدير بالذكر أن تقسيم القوى السياسية والمنافسات الناجمة عن ذلك ساعد في مرحلة باكرة على الحيلولة دون ظهور حالات المركزية المفرطة غير الملائمة التي كان بالإمكان مشاهدتها (ولو على نحو دوري في أغلب الحالات) في الإمبراطوريات القديمة غير الأوروبية. ويعتبر هيكل أوروبا في فتراته الباكرة والكلاسيكية والإقطاعية حسب المعايير السائدة آنذاك هيكلًا متخلفًا وهامشيًا(6). والملاحظ أنه قبل أن يهيمن الاقتصاد التنافسي الحديث بقرون (وهو الرأسمالية التنافسية) كانت المنافسة السياسية هي التي تصوغ شكل التطور الأوروبي وذلك من خلال المعارك الكثيرة التي بدأت في صورة نزاعات وصراعات صغيرة ثم تحولت تدريجيًا إلى صراعات سياسية إقصائية(7). ولكن لم تقع هذه الصراعات على مستوى القارة كلها أبدًا وإنما ظلت على مستوى محلي، وكانت تفضي بين حين وآخر إلى انتصار الطرف الأقوى. وحدث كثيرًا جدًا حين كانت الانتصارات محدودة ويعقبها تعادل بين القوى المتصارعة أن أدت إلى سياسة مصالحة وتوفيق سياسي – أي إلى مجموعة من "الضوابط والموازنات" على نحو ما نرى في الوثائق الأوروبية الشهيرة مثل الماجنا كارتا عام 1215م، وهكذا كانت التعددية قبل الحداثة، وقبل التنوير بزمن طويل هي جوهر وروح الواقع الأوروبي.
ويمكن القول إلى حد ما إن المنافسة السياسية في أوروبا قبل الحداثة كانت لها أيضًا آثار إيجابية على الإمكانات الإبداعية للمجتمعات المعنيّة. وصادف الإبداع تشجيعًا من التطور الذي حدث بعد هذا للاقتصاد التنافسي الذي امتد ليشمل كل المعمورة وليصبح أخيرًا ظاهرة كوكبية، بحيث جعل المنافسة الاقتصادية المنطق الجوهري الأصيل للمنظومات الاجتماعية. وهكذا ظهر تدريجيًا، خطوة بخطوة، نمط المجتمع الحديث الذي يحدد اليوم طبيعة الحياة في جميع المجتمعات الغربية وإن كان من المحتمل أنه الآن في سبيله إلى التفكك.
وتتجلى نتيجة هذا التحول الممتد من المجتمعات الأوروبية التقليدية إلى المجتمعات الحديثة في موجة شاملة من التحرر البشري ليس لها نظير في تاريخ الإنسانية. وهذا أيضًا من الناحية التاريخية حدث تنفرد به أوروبا. ولزم عن هذا التحرر اختلاف متسارع وغير مسبوق في الثقافة الأوروبية. وهذه نتيجة منطقية تعادل الآثار المهمة التي كانت لعملية الاختلاف الثقافي السابقة على التحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومن ثم يبدو الانتقال إلى الحداثة أشبه بسلسلة سببية دورانية وتراكمية.
وإذا نظرنا إلى هذا التحول الذي شهدته أوروبا من منظور بعيد المدى نجد أن له آثاره العميقة والشاملة بحيث كان من المستحيل التكهن بتطور أوروبا خلال الفترة التالية في ضوء تاريخها السابق. وإذا نظرنا إلى الأحداث الماضية بعد وقوعها نجد ما يغرينا بقوة لافتراض حدوث تطور خطي المسار للثقافة الأوروبية – ولكن الشيء الذي لا خلاف عليه هو أن التطور الأوروبي اتسم بالانقطاعات والابتكارات.
ثالثًا: حققت أوروبا في مسارها الحداثي توسعًا استعماريًا وإمبرياليًا مما ترتب عليه نشوء هياكل تابعة لها. ونتيجة لهذا وقع العالم غير الأوروبي تحت ضغوط تحديثية من الخارج وإن تباينت أزمنتها ودرجاتها ذلك أن البعض وقع تحت هذه الضغوط في فترة باكرة بينما بعضها الآخر في فترة متأخرة(10). واستطاعت ضغوط التحديث هذه أن تسود نظرًا لضعف قوة مقاومة المجتمعات التقليدية. ومع هذا كانت المقاومة لافتة للأنظار على الرغم من قمعها بالقوة عادة.
إذ يلاحظ في كل أنحاء العالم غير الأوروبي أن الهزائم الفعلية والوشيكة أثارت ردود أفعال مضادة فكرية وسياسية।وتباينت نتيجة لذلك من حيث القضايا التي تؤكد عليها. ونجد أن من بين الخيارات المطروحة قضية محاكاة الغرب. وانعقد الأمل بذلك على اللحاق بالتطور الأوروبي، ثم إلحاق الهزيمة بعد ذلك بالغرب مستعينين بأسلحته. ونجد في مجتمعات كثيرة خيارًا آخر وهو إعادة التفكير من جديد في تراثها الخاص ومحاولة إحيائه وتجديده. وثمة خيار ثالث يتمثل في الجمع بين الاثنين الأولين بهدف الحفاظ على القيم الخاصة للمجتمعات مع العمل في الوقت نفسه على تبني التكنولوجيات والخبرات الجديدة. والخيار الرابع يعود إلى الظروف المواتية أكثر مما يعود إلى إرادة أصحابه: الابتكار باعتباره استجابة غير مسبوقة إزاء تحديات لا نظير لها.
وطبيعي أن الاستجابات في الواقع لم تكن كقاعدة عامة استجابات أحادية الخط والمسار؛ بل مزيجًا من المشروعات الفكرية المناهضة والممارسة السياسية. وكانت تعني جميعها من حيث الإدراك الذاتي للمجتمعات المعنيّة تحولًا عامًا للمجتمع. ويصدق هذا بخاصة بالنسبة للخيار الثاني أعني محاولة إحياء التراث ذلك لأن قيمة التراث هنا، على عكس الحال في المجتمعات التقليدية تخضع للفحص والتدقيق؛ مما يعني أنه لم يعد بالإمكان أخذها مأخذ التسليم. ونظرًا لأن أنصار كل اختيار من هذه الخيارات الثلاثة قيموا الموقف على نحو مختلف وحددوا لأنفسهم أهدافًا مختلفة فقد تصارعوا بالضرورة مع بعضهم بعضًا. وأشعل هذا فتيل الصراع الثقافي بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ حيث دارت حوارات ومعارك بشأن التنظيم الحديث للنظام العام، وأثارت بالحتم تساؤلات وقضايا خاصة بالثوابت الثقافية للمجتمعات التقليدية(12).
رابعًا: أصبح الجدل أكثر حدة واحتداما حيث جرت عمليات تحديث داخلية – أي اجتماعية واقتصادية نابعة من الداخل أو جرى عن عمد تقسيمها إلى مراحل نتيجة تحديات من الخارج। إذ أن هذه العمليات، حتى وإن كانت في أول عهدها هشة للغاية في غالب الأحيان إنما تمثل تكرارًا للتجربة الأوروبية؛ أعنى استحداث إطار مجتمعي حديث بدلًا عن التقليدي وبخاصة الهيكل الزراعي(13). ويلاحظ أنه حيثما عانى المجتمع من انهيار كمي درامي طويل الأمد في الزراعة – يبدأ أولًا بكميات صغيرة، ولكنه في بعض الحالات يزداد بمعدل مثير – تظهر طبقات اجتماعية حداثية مطابقة للمجتمعات الصناعية أو مجتمعات الخدمات: الإدارة العامة، وطبقة موظفي الدولة، ومنظمي المشروعات الخاصة والطبقات الوسطى والطبقات العاملة الصناعية، والآن حديثًا جدًا الطبقات المهنية التي ظهرت مع عملية التقدم الصناعي. وتتوافق هذه الطبقات الاجتماعية الجديدة مع قطاعات اجتماعية مختلفة لا تختلف كثيرًا عمًا هو حادث في أوروبا؛ حيث لكل طبقة مصالحها وهويتها الخاصة. وتقترن هذه العملية مباشرة بالتباين الثقافي. ونرى هذا التباين الثقافي مثله مثل المجتمعات الأوروبية مجسدًا في مجتمع يحظى بحراك اجتماعي متزايد مع تقدم عملية التحديث ويكتسب زخمًا خاصًا به.
....
من مقدمة كتاب " الصدام داخل الحضارات"
لدييتر سنغاس
ترجمة"شوقي جلال"
صدر حديثًا عن دار العين للنشر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق