الأحد، 4 يناير 2009

مقتطف من كتاب "توابع الفتنة الكبرى ": مقدمة جمال الغيطاني



حيدر آباد..
لكم أثار هذا الاسم مخيلتي، ليس لأنه اسم يقترب من أسماء المدن الأسطورية التي وردت في الف ليلة وليلة، ولكن للدور الثقافي الذي قامت به في خدمة الثقافة الإسلامية، العربية،
في مكتبتي عناوين نادرة من التراث العربي طبعت في دائرة المعارف الاسلامية، بعضها لم يصدر عن أي جهة نشر في العالم العربي حتى الآن، أكثر من خمسمائة عنوان نادرة، يكفي أن أذكر (رسائل ابن عربى) للشيخ الأكبر، و" الإلمام بما جاءت به الأحكام" لمحمد بن قاسم محمد النوري الإسكندراني، والذي يسجل وقائع غزوة القبارصة للمدينة في القرن الثامن الهجري، حققه الدكتور عزيز سوريال عطية وصدر من حيدر آباد في سبعة مجلدات، للأسف توقفت دائرة المعارف العثمانية عن الصدور لظروف متعددة، ويظل دورها مجهولاً للأسف عند الكثيرين من الناطقين بالعربية، خلال سفري إلى الصين قطعت الطائرة الهند من أقصاها إلى أقصاها، وأثناء التحليق فوق جنوب الهند، وقرب البحر الذي يفصل البلد الكبير عن سرى لانكا، فوجئت أننا نحلق فوق حيدر آباد، إنها في عمق الهند إلى الجنوب الشرقي ، تذكرت ما قاله صديق ممن خبروا الهند وعرفوها عن قرب أن أهم مراكز الثقافة الإسلامية موجودة في الهند. ثم فاجأني الصديق نائل الشافعي خبير الاتصالات المقيم في الولايات المتحدة، مؤسس موسوعة "المعرفة" الإلكترونية التي يوجد بها الآن كافة الإصدارات التي طبعتها دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد؛ فاجأني بهذا البحث القيم عن" المختار بن أبي عبيد الثقفي " عن ثورته ونتائجها ، وبالطبع أسبابها. بدأت على الفور قراءة المخطوط الذي تقدمه (دار العين) إلى القارئ لأول مرة بعد تسعة وخمسين عامًا من مناقشة هذه الرسالة العلمية الفريدة في جامعة القاهرة. من خلالها عشت مع شخصيتين تمثلتهما واستعدتهما مرارًا.

الأول: الباحث الذي جاء من الهند إلى القاهرة ليدرس العربية ويتقوى فيها، ثم يتقدم إلى جامعة القاهرة بموضوع هذه الرسالة التي أشرف عليها الدكتور حسن إبراهيم حسن ، أحد أكبر العلماء المتخصصين في التاريخ الإسلامى عامة. وتاريخ الدولة الفاطمية خاصة، وقد صدر بحثه القيم في ثلاثة مجلدات،

المؤلف هو الدكتور أبي النصر محمد الخالدي، طوال قراءتي للبحث كان ماثلاً أمامي، أحيانًا نشعر بوجود المؤلف في البحث العلمي الذي كتبه رغم أنه لا يذكر شيئًا عن نفسه، كنت أحاول تجسيد رحلته العلمية في المكان والزمان ؛ منذ أن ولد عام 1916 في حيدر آباد، ثم بدء رحلته العلمية ، أن التفاصيل موجودة في المقدمة الهامة التي كتبها ابنه الدكتور عمر الخالدي، وفيها يكشف عن مسار عالم كبير كان هدفه تحصيل العلم والتفوق فيه منذ أن التحق بالمدرسة، حتى وصوله إلى القاهرة عام 1946 ليبدأ دراسة الدكتوراه، أن التفاصيل العلمية والإنسانية التي نقرأها في مقدمة الابن الذي يعمل حاليًا ويقيم في الولايات المتحدة، تكشف عن جانب مهم من العلاقات الثقافية الذي بين القاهرة وحيدر آباد ، بين جامعة القاهرة والحياة الثقافية في المراكز الإسلامية الكبرى بالهند، والتأثير المتبادل والتفاعل ، ثمة نقطة هامة أشير إليها تتعلق بالابن عمر الخالدي الذي يشغل مكانة علمية هامة في معهد () بالولايات المتحدة ، وتتعلق بإصراره على إخراج هذه الرسالة العلمية الهامة إلى النور ونشرها في القاهرة، كم من الأبحاث الهامة تمت مناقشتها وحصل أصحابها على درجات علمية رفيعة؛ لكنها لم تخرج إلى القراء، لم تعم فائدتها، وكان ممكنًا لهذا البحث القيم أن يلقي نفس المصير لولا إصرار الابن، الذى وجد صدى عند الدكتورة فاطمة البودى مدير الدار، والتي تحمست لنشرها وإخراجها إلى القراء بعد ستين عامًا من مناقشتها في جامعة القاهرة، لقد تأثرت كثيرًا بتجسيد حياته من خلال هذه التفاصيل الدقيقة التي وردت في مقدمة الدكتور عمر الخالدي، عن حياة والده العلمية سواء في حيدر آباد ، أو القاهرة ، وأتمنى أن يكون نشر هذه الرسالة فاتحة لاستئناف الاهتمام بمراكز الثقافة الإسلامية الكبرى في الهند ، ومن أهمها حيدر آباد.

الشخصية الثانية التي توقفت أمامها طويلاً: هو المختار بن أبى عبيد الثقفى، وفي حدود ما قرأت، فتلك أول دراسة شاملة أطالعها عنه، بالنسبة لي كانت معرفته من خلال مصادر التاريخ الإسلامي المبكرة والتي اعتمد عليها الباحث في إعداد رسالته العلمية التي تحلل بعمق الظروف التاريخية التي أدت إلى ظهور المختار على مسرح الأحداث الدامية التي أعقبت استشهاد الحسين عليه السلام، يتصل الأمر بما أطلق عليه عميد الأدب العربي طه حسين" الفتنة الكبرى" وتداعياتها المستمرة حتى عصرنا الحالي؛ بل ويبدو أن أمور المسلمين تزداد تعقيدًا بعد خمسة عشر قرنًا من نزول الرسالة ؛ فالفرقة تتسع والدعوات إلى تعميق التقسيم تتزايد بدلاً من الدعوة إلى التقارب وردم الفجوات خاصة بين أهل السنة والشيعة، ويوجد من لديه الأسباب لتعميق الهوة। غير أن العناصر الداخلية الفاعلة تظل أخطر وأقوى، خاصة مع الجنوح إلى التطرف، وعدم فهم روح العصر وما يجري في العالم، من هنا تبدو هذه الدراسة هامة لأنها تسلط الضوء على فترة حساسة، كثير من تفاصيلها ما زال ممتدًا حتى الآن أو نطالع ما يشبه، هذا ما يضفي قيمة إضافية وبُعدًا حيويًا على ظهورها الآن؛ إضافة إلى قيمتها العلمية، جزى الله العلامة أبو النصر محمد الخالدي خيرًا على علمه وجهده.


مقدمة جمال الغيطاني
لكتاب توابع الفتنة الكبرى لمؤلفه الدكتور أبو النصر محمد الخالدي

ليست هناك تعليقات: