الحلم لا يختلف كثيرا عما تفعله الأرملةُ المسنة .. فقبل ثلاث سنوات اتخذت مهنتها المعلنة كمدرسةٍ للغة العربية شكلاً آخر .. منح حياتها رعشة كانت بحاجة إليها ، كما منح يدها الفرصة لتعبِّر عن بلاغتها القديمة التي لم تسنح لها الفرصة من قبل للتعبير عنها .
في وقت متأخر جداً من حياتها ، اكتشفت ما يتعين عليها فعله حقيقةً في هذه الدنيا : أن تكتب خطابات غرامية ملتهبة لمُراهقات المدينة .. ليرسلنها إلى المُحبين ، مشفوعةً بأمنياتها الصادقة بحسن الطالع .
" بعد أن أستمع إلى حكاية كل واحدة ، و أحدد ـ بدقة ـ ما الذي عليها أن تكتبه .. و الأسلوب الملائم لشخصيتها و للشخص الذي تحبه ..سأشرع في كتابة الخطابات أولاً بخطي المنمق الجميل ، ثم أعطيها للفتيات ليُعِدن كتابتها بخطهن ".
هذا ما قالته الأرملة لنفسها . فكرت أن هذه المهنة تشبه ـ إلى حد بعيد ـ مهنتها كمدرسة ، مع فارق واحد يجعلها أمتع ..أنها هذه المرة في الخفاء .
بطريقة تفكير عملية بدأت تحصي الأشياء القليلة التي كانت لا تزال تربطها بالحياة : أنفاسها ، و صَفَّيْ أسنان مكتملين ناصعي البياض ، و يداً لا تزال تعمل .
كانت في نظر الجيران مجرد امرأة تنتظر الموت ، ترتدي على الدوام فساتين حداد سوداء ، لا تخلو من زهور لم تكن مرئية ـ رغم أنها مطرزةٌ بعناية ودقة ـ ذلك أن الزهور كانت سوداء أيضاً . لم يكن يخطر على بال أحد أن مثل هذه المرأة لا تزال تحتفظ بقلب مراهقةٍ تتهيأ للحب .. و لم يلحظ أحد أنها على الرغم من جسدها الشائخ ، فإن شفتيها كانتا لا تزالان مشدودتين .
كانت تعمل في رتابة ، مع مجموعات البنات غير المنتهية و التي أثارت حسد الجيران ، و في المساء تفتح الكراريس لتتسلى بتقييم تلميذاتها الصغيرات. ذات ليلة، وجدت خطاباً نائماً في كراسة فتاة . قرأته مندهشة ، و رغم ذلك أزعجتها ركاكته و عباراته غير المعبرة . كانت ملك امرأة لا تتهاون أبداً مع جمال الأسلوب و رصانته. لكي تتسلى ، بدأت تكتبه بالطريقة التي وجدتها مثالية ، محافظةً على المعاني الماثلة فيه. استغرق ذلك وقتاً ليس بالقليل .. و لكنها شعرت بمتعة سوداء. و نامت لأول مرة دون أن تنهي تصحيح الكراسات .
في الصباح التالي استيقظت ممتلئةً بما حدث. خرجت إلى البلكونة ، كان الصباح مظلما كأنه الليل . رأت أسراب فتيات في ملابس كحلية و بيضاء ، يتضاحكن ، و على شعورهن أحجبة مرتجلة . تحسست شعرها المطلق بقدر من الخجل .
قالت : بعضهن يحملن تلك التليفونات الصغيرة ، يتحدثن في أي وقت ، و يكتبن الرسائل أيضاً . أصابها حديثها ذاك لنفسها بشيء من الإحباط ، و لكنها عادت : ليس هناك ما يعوض خطابا كتبته يدك تلك ، وفردت كف يدها اليمنى أمامها في الشبورة الصباحية، فلم تر سوى بريق الخاتم الذهبي الغليظ. قربتها قليلا ، ورأتها مزرقة وشاحبة كأنها سبقت جسدها إلى الموت. غالبت الحسرة قائلة : هل تستطيع واحدة من هؤلاء أن تكتب ثلاث أو أربع ورقات على هذه الشاشة البخيلة ؟ إنها تصلح فقط للاتفاق على موعد أو لتوضيح موقف عابر. هؤلاء الفتيات بحاجة لمساعدة.. و لعلهن يفعلن ذلك بالفعل . داخل هذه الحقائب تنام أشواقهن .
قالت لنفسها : لقد كنت أرى أشياء مثل تلك في شبابي.. في فصول البنات ، عندما ألمح خطابات غرامية في الكراريس ، و في طيات الحقائب المدرسية .. غير أنني كنت قاسية للغاية . كنت أعاقبهن أو على أفضل تقدير أطالبهن بالاقلاع عن ذلك . رغم أنني كنت أتبادل خطابات لا تقل سذاجة مع شاب ! . لقد أحبطت آمال كثيرات بتمزيق أوراقهن و باستدعاء الآباء ، و لو فعلت ذلك الآن ، فسيكون تكفيراً غريباً مع حفيدات هؤلاء الطالبات بالذات ! .
غابت في وجل غامض ، و امتلأت عيناها الواسعتان بالدموع : كثيرات منهن عشن مع رجال لم يكن يحببهن .. و رغم أن القدر هو من يتسبب في ذلك .. إلا أنني ساعدته بكل الطرق ! .
في هذه اللحظة فقط تجرأت، و قررت أن تفض الحقيبة الصغيرة التي لم تفتحها منذ سنوات طويلة ، منذ تزوجت .
استبقت الفتاة بعد أن أنهت الحصة التالية ، ووبختها ، و لكنها كافأتها سراً .. فقد كان خطابها النموذجي نائماً في كراستها . أدركت الفتاة ذلك الجميل الأمومي ، و استمرت في فعلتها مانحة الأرملة الفرصة التي كانت تموت من أجلها. و لم ينقض وقت طويل حتى كانت العدوى السرية تنتقل لكراسات أخرى ، و التواطؤ الخفي يتخذ ــ يوماً بعد آخر ــ شكل اتفاق معلن .
ظهرت الشمس في اليوم التالي ، و جف الخطاب.
عندما اقتربت منه تأكدت أنه تحول إلى حطام .. و لكنها بمجرد أن أمسكت به و قربته من عينيها ارتعدت و كادت تقع .
ماالذي حدث ؟ لقد ظنت ملك أن ماتفعله منذ سنوات سيكون سرها الأخير الذي يجب أن تحافظ عليه إلى أن تغادر العالم . الآن هناك هذا الخطاب الذي باغتها هذا الصباح ، فقط ليوقظ الذكرى .
من أرسله ؟ و لماذا فعل ذلك ؟ . كانت الأسئلة تقتل ملك . و كان سؤال آخر يسيطر عليها منذ عادت للمدينة : أين هذا الحبيب ؟ . فتشت عنه في كل ركن ، وسألت كل من يمكن أن تسأله . و لكن أحدا لم يجبها .. كأنه تبخر.
جاء الخطاب ليكمل ماضيها فجأة ، و ليجعلها تتأمل من جديد خطاباتها القديمة بعين أخرى. كانت مدينة لمهنتها الجديدة بإخراج هذه الخطابات من حقيبة اليد المهملة، والتي ظلت دائما نائمة في عتمة دولاب زواجها .
عندما بدأت عملها ، و لكي لا تقع في أخطائها القديمة ، أخرجت كل خطابات غرامها المفقود و أعادت قراءتها . كاد الحنين أن يهزمها ، بينما تستنشق رائحة الخسارات التي غادرت الحقيبة المهترئة لتغمر غرفة نومها ..و لكنها قاومته بالنظرة الصارمة لامرأة ستحدد مصير أخريات .
بعد دقائق كانت الخطابات تفترش الملاءة ، بكل تراب السنوات التي علقت بتجاعيد الوريقات المسطرة .هالها ما وجدته في الخطابات من سذاجة وقلة حيلة وافتقاد لأبسط مباديء الحكمة و حسن التصرف .. و حمدت الله أن حبيبها الأول ـ والوحيد في الحقيقة ـ أعادها لها عند الفراق كنوع من الشرف .. كما حمدت الله أنها لم تحرقها انتقاماً من قلبها ، و احتفظت بها دائماً كعبء حقيقي كان هو المسئولية الوحيدة التي نجحت في تحملها بامتداد عمر عامر بالإخفاقات .اكتفت دائماً بقراءتها كطقسٍ سري أثناء زواجها من رجل لم تحبه أبداً ـ و لم تكرهه أيضاً ـ و هو ، من وجهة نظرها ، الأسوأ . لذا ، قررت أن تكون أول نصيحة تهديها لفتاة هي : " إذا فشلتِ في الزواج من رجل تحبيه ॥ تزوجي من رجل تكرهيه .. لكن إياك و الزواج من رجل لا تحملين له مشاعر خاصة .. لأن يوماً سيأتي عليك لتكتشفي أنك لاتملكين في حياتك ما يصلح للتذكر " .
.........
مجتزأ من رواية " الأرملة تكتب الخطابات سرًا"
طارق إمام
صادرة حديثًا عن العين للنشر
يناير 2009
في وقت متأخر جداً من حياتها ، اكتشفت ما يتعين عليها فعله حقيقةً في هذه الدنيا : أن تكتب خطابات غرامية ملتهبة لمُراهقات المدينة .. ليرسلنها إلى المُحبين ، مشفوعةً بأمنياتها الصادقة بحسن الطالع .
" بعد أن أستمع إلى حكاية كل واحدة ، و أحدد ـ بدقة ـ ما الذي عليها أن تكتبه .. و الأسلوب الملائم لشخصيتها و للشخص الذي تحبه ..سأشرع في كتابة الخطابات أولاً بخطي المنمق الجميل ، ثم أعطيها للفتيات ليُعِدن كتابتها بخطهن ".
هذا ما قالته الأرملة لنفسها . فكرت أن هذه المهنة تشبه ـ إلى حد بعيد ـ مهنتها كمدرسة ، مع فارق واحد يجعلها أمتع ..أنها هذه المرة في الخفاء .
بطريقة تفكير عملية بدأت تحصي الأشياء القليلة التي كانت لا تزال تربطها بالحياة : أنفاسها ، و صَفَّيْ أسنان مكتملين ناصعي البياض ، و يداً لا تزال تعمل .
كانت في نظر الجيران مجرد امرأة تنتظر الموت ، ترتدي على الدوام فساتين حداد سوداء ، لا تخلو من زهور لم تكن مرئية ـ رغم أنها مطرزةٌ بعناية ودقة ـ ذلك أن الزهور كانت سوداء أيضاً . لم يكن يخطر على بال أحد أن مثل هذه المرأة لا تزال تحتفظ بقلب مراهقةٍ تتهيأ للحب .. و لم يلحظ أحد أنها على الرغم من جسدها الشائخ ، فإن شفتيها كانتا لا تزالان مشدودتين .
كانت تعمل في رتابة ، مع مجموعات البنات غير المنتهية و التي أثارت حسد الجيران ، و في المساء تفتح الكراريس لتتسلى بتقييم تلميذاتها الصغيرات. ذات ليلة، وجدت خطاباً نائماً في كراسة فتاة . قرأته مندهشة ، و رغم ذلك أزعجتها ركاكته و عباراته غير المعبرة . كانت ملك امرأة لا تتهاون أبداً مع جمال الأسلوب و رصانته. لكي تتسلى ، بدأت تكتبه بالطريقة التي وجدتها مثالية ، محافظةً على المعاني الماثلة فيه. استغرق ذلك وقتاً ليس بالقليل .. و لكنها شعرت بمتعة سوداء. و نامت لأول مرة دون أن تنهي تصحيح الكراسات .
في الصباح التالي استيقظت ممتلئةً بما حدث. خرجت إلى البلكونة ، كان الصباح مظلما كأنه الليل . رأت أسراب فتيات في ملابس كحلية و بيضاء ، يتضاحكن ، و على شعورهن أحجبة مرتجلة . تحسست شعرها المطلق بقدر من الخجل .
قالت : بعضهن يحملن تلك التليفونات الصغيرة ، يتحدثن في أي وقت ، و يكتبن الرسائل أيضاً . أصابها حديثها ذاك لنفسها بشيء من الإحباط ، و لكنها عادت : ليس هناك ما يعوض خطابا كتبته يدك تلك ، وفردت كف يدها اليمنى أمامها في الشبورة الصباحية، فلم تر سوى بريق الخاتم الذهبي الغليظ. قربتها قليلا ، ورأتها مزرقة وشاحبة كأنها سبقت جسدها إلى الموت. غالبت الحسرة قائلة : هل تستطيع واحدة من هؤلاء أن تكتب ثلاث أو أربع ورقات على هذه الشاشة البخيلة ؟ إنها تصلح فقط للاتفاق على موعد أو لتوضيح موقف عابر. هؤلاء الفتيات بحاجة لمساعدة.. و لعلهن يفعلن ذلك بالفعل . داخل هذه الحقائب تنام أشواقهن .
قالت لنفسها : لقد كنت أرى أشياء مثل تلك في شبابي.. في فصول البنات ، عندما ألمح خطابات غرامية في الكراريس ، و في طيات الحقائب المدرسية .. غير أنني كنت قاسية للغاية . كنت أعاقبهن أو على أفضل تقدير أطالبهن بالاقلاع عن ذلك . رغم أنني كنت أتبادل خطابات لا تقل سذاجة مع شاب ! . لقد أحبطت آمال كثيرات بتمزيق أوراقهن و باستدعاء الآباء ، و لو فعلت ذلك الآن ، فسيكون تكفيراً غريباً مع حفيدات هؤلاء الطالبات بالذات ! .
غابت في وجل غامض ، و امتلأت عيناها الواسعتان بالدموع : كثيرات منهن عشن مع رجال لم يكن يحببهن .. و رغم أن القدر هو من يتسبب في ذلك .. إلا أنني ساعدته بكل الطرق ! .
في هذه اللحظة فقط تجرأت، و قررت أن تفض الحقيبة الصغيرة التي لم تفتحها منذ سنوات طويلة ، منذ تزوجت .
استبقت الفتاة بعد أن أنهت الحصة التالية ، ووبختها ، و لكنها كافأتها سراً .. فقد كان خطابها النموذجي نائماً في كراستها . أدركت الفتاة ذلك الجميل الأمومي ، و استمرت في فعلتها مانحة الأرملة الفرصة التي كانت تموت من أجلها. و لم ينقض وقت طويل حتى كانت العدوى السرية تنتقل لكراسات أخرى ، و التواطؤ الخفي يتخذ ــ يوماً بعد آخر ــ شكل اتفاق معلن .
ظهرت الشمس في اليوم التالي ، و جف الخطاب.
عندما اقتربت منه تأكدت أنه تحول إلى حطام .. و لكنها بمجرد أن أمسكت به و قربته من عينيها ارتعدت و كادت تقع .
ماالذي حدث ؟ لقد ظنت ملك أن ماتفعله منذ سنوات سيكون سرها الأخير الذي يجب أن تحافظ عليه إلى أن تغادر العالم . الآن هناك هذا الخطاب الذي باغتها هذا الصباح ، فقط ليوقظ الذكرى .
من أرسله ؟ و لماذا فعل ذلك ؟ . كانت الأسئلة تقتل ملك . و كان سؤال آخر يسيطر عليها منذ عادت للمدينة : أين هذا الحبيب ؟ . فتشت عنه في كل ركن ، وسألت كل من يمكن أن تسأله . و لكن أحدا لم يجبها .. كأنه تبخر.
جاء الخطاب ليكمل ماضيها فجأة ، و ليجعلها تتأمل من جديد خطاباتها القديمة بعين أخرى. كانت مدينة لمهنتها الجديدة بإخراج هذه الخطابات من حقيبة اليد المهملة، والتي ظلت دائما نائمة في عتمة دولاب زواجها .
عندما بدأت عملها ، و لكي لا تقع في أخطائها القديمة ، أخرجت كل خطابات غرامها المفقود و أعادت قراءتها . كاد الحنين أن يهزمها ، بينما تستنشق رائحة الخسارات التي غادرت الحقيبة المهترئة لتغمر غرفة نومها ..و لكنها قاومته بالنظرة الصارمة لامرأة ستحدد مصير أخريات .
بعد دقائق كانت الخطابات تفترش الملاءة ، بكل تراب السنوات التي علقت بتجاعيد الوريقات المسطرة .هالها ما وجدته في الخطابات من سذاجة وقلة حيلة وافتقاد لأبسط مباديء الحكمة و حسن التصرف .. و حمدت الله أن حبيبها الأول ـ والوحيد في الحقيقة ـ أعادها لها عند الفراق كنوع من الشرف .. كما حمدت الله أنها لم تحرقها انتقاماً من قلبها ، و احتفظت بها دائماً كعبء حقيقي كان هو المسئولية الوحيدة التي نجحت في تحملها بامتداد عمر عامر بالإخفاقات .اكتفت دائماً بقراءتها كطقسٍ سري أثناء زواجها من رجل لم تحبه أبداً ـ و لم تكرهه أيضاً ـ و هو ، من وجهة نظرها ، الأسوأ . لذا ، قررت أن تكون أول نصيحة تهديها لفتاة هي : " إذا فشلتِ في الزواج من رجل تحبيه ॥ تزوجي من رجل تكرهيه .. لكن إياك و الزواج من رجل لا تحملين له مشاعر خاصة .. لأن يوماً سيأتي عليك لتكتشفي أنك لاتملكين في حياتك ما يصلح للتذكر " .
.........
مجتزأ من رواية " الأرملة تكتب الخطابات سرًا"
طارق إمام
صادرة حديثًا عن العين للنشر
يناير 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق