الأحد، 18 يناير 2009

ليالي البانجو :مجتزأ من آخر رواية كتبها الراحل يوسف أبو رية

عجز الأستاذ مصطفي الشيخ في الحصول علي شقة بالإيجار لأنه لم يقدر علي إنشاء بيت ملك، وكان قد تنقل من مكان إلي مكان، واستقر أخيرا في سكن قريب من عمله، ثم إن الإيجارات في ازدياد دائم، فافتقد حرية التنقل، يقيم مع زوجة، لا تعمل، لتعاونه علي تكاليف العيش، يذهب إلي عمله بالوحدة البيطرية، وهي تهبط إلي السوق لشراء ما تم الاتفاق عليه من طعام، تعمل علي ترضيته أبدا، كانت لها بنتان يعاونانهافي عمل البيت، وتم زواجهما وحين تنجب الواحدة منهما ترسل الرضيع لجدته، لمراعاته، أضف إلي هذا القيام بالكنس، والتنظيف، حتي يعود من مكتبه في الثانية ظهرا، وتكون البنتان قد عادتا إلي بيتيهما، حاملات وساحبات الأحفاد.
الآن حان موعد عودته الليلة، بعد ادعائه إنه يجالس أصدقاء وزملاء العمل، ولم يكن هذا مما اعتاده من قبل.
يقضي الأستاذ مصطفي الشيخ الوقت مع أم كريم، زميلة العمل، وكان قد فاتح مها في هذا الموضوع، لأنها موضع سره وخفاياه المستترة، ولأن لها أغراضا في رفض العريس القروي، أو لأنها تخطط للخروج من بيتهم، فتجد التعاطف الأبوي الذي تحتاجه.
فتحت له أم مها الباب حين دق الجرس، لا يشعر تجاهها بأي ذنب، فقد تقوض بدنها، وبانت عليه شيخوخة مبكرة، رفعت عن بدنه الجاكت، وحلت عقدة رابطة العنق، ثم وقفت خلف ظهره لتسحب القميص، ثم فردت أمامه البيجامة المطوية.
- جهزي لنا العشاء.
- انتظر قليلا حتي تعود (مها) من مشوارها.
- مها هنا؟؟ هل سيد أتي معها؟
- جاءت لوحدها، وذهبت لتشتري أغراضا لها. أرادت أن تفاتحه في رغبة البنت في هجر زوجها.
ولكنها آثرت الصمت (هي وأبوها شورة خير) فهي أحب بناته إليه، وبينهما أسرار لا تعرف عنها شيئا، وكثيرا ما تدخل عليهما الحجرة، فيصمتان، وكأنما يمتلكان خفايا لا تدرك مغزاها، بينما هي من جانبها مجرد فتاة غامضة لا تكاشفه بما يدور في عقلها، ثم سرعان ما دق الجرس مرة أخري ودخلت عليهما مها تلهث من صعود درجات السلم. فأقبل عليها يقبلها من وجنتيها.
- كيف حالك؟
- وأخبار السيد؟
- بخير.
وأعدت الأم مائدة العشاء بعد أن تركتها في الغرفة وحيدة تبدل ثيابها.
ودار الحديث أثناء العشاء.
قالت أم مها: إن مها لا تريد العودة إلي بيت زوجها.
- أنا لا أطيقه يا أبي.
- بعد أن وقعت الفاس في الراس.
- كنت رافضة له، ولكنك أجبرتني.
ثم أعلنت أم مها الخبر الذي أربك حسابات الأب.
- وهي الان في الشهر الثالث.
- يا خبر!!
- إن هذا سيعقد المشكلة.
- لا تعقيد ولا يحزنون.
- كيف؟ سندخل في سين وجيم، ومحاكم، ونفقة وما شابه، إن قلة خبرتك لا تسمح بمعرفة المشاكل.
- أنا لا أدري شيئا غير إن الحياة مستحيلة، إنه لا يحل ولا يربط، والأمر كله في يد أمه.
- لا دخل لي بهذه التفاصيل، إنني أحافظ علي كرامة هذه الأسرة، فلا تطليق في عائلتنا، إنها سابقة لم تقع من قبل.
ورفعت الأم بقايا الطعام إلي المطبخ، ولم تحاول مها معاونتها، ونظرت البنت إلي أبيها نظرة ذات مغزي. كأنما تقول في سرها (هذه مقابل تلك) (تطليقي في مقابل إخفائي لسرك مع أم كريم) فاهتزت عيناه، وأخفي نظرته بعيدا عنها.
أراد أن يشعل التلفزيون ليشغل نفسه، عما يدور في عقل كل منهما، أما مها، فقد غسلت يدها، ودخلت الحجرة التي ضمت جدرانها طفولتها، وصباها، قبل أن تججبر علي ترك بيت الأب، مددت علي السرير بكسل، وهي تفكر في تدبير خالد، هل سيوفق في البحث عن مكان، إن جسدها شغوف إليه، فكم جربت لمسه، وتقبيله، وكانت في أثناء ذلك تقارن بين الشابين، الزوج، والحبيب، فكانت نفسها تنزع إلي الآخر، وتتبلد بل تتقزز من الأول، إن خالد بعطره الفواح وخبرته، وحنكته، يعزف أجمل الألحان، أما الزوج فإنه ينام معها كالبهيمة، وهذه المقارنة دفعتها لاتخاذ القرار مها كانت خطورته.
ولحق بها أبوها الأستاذ مصطفي الشيخ منكسرا، ومهزوما. لا يريدها _ في لحظة تهور _ البوح بسرهما، ولكنه لن يوافق علي تطليقها مهما كانت الأسباب، فرد طوله إلي جوارها، وهو ينفث غضبا كظيما.
- حاولي مرة أخري.
- يا أبي وأنت سيد العارفين، مستحيل، فالرجل نفّس، وسلوك راق، ومن الرجال من لا يصلح للحياة الزوجية، حتي لو نثر أغلي العطور في كل قطعة من جسده.
إنه يتعاطف مع مشاعرها، ولكنه لا يستطيع اتخاذ القرار، فهو من اختاره، علي ظن أنه من السهل اعتياده، والسيطرة عليه، انقلب جسد الأب نحوها، وصارت العيون في مواجهة حقيقية استعاد بها لحظات قضاها علي نفس الفراش قبل زواجها، وحين افتقدها، وقع في غرام أم كريم، امرأة مطلقة، لا ولد لها، تلعب بالبيضة والحجر، وقادرة علي استثارة وخم الرجال، ابتاع لها الهدية بعد الهدية، وقربها من مكتبه الذي سمح لهما تبادل كلمات الغزل المكشوف، بحيث لا تلتقطها أذن الزميل أو الزميلة التي تجاورهما، وتواعدا علي اللقاء في شقتها، فهي امرأة غريبة لا تنسب لأهل البلدة، فلا خوف عليها، ولا خشية منها، أراد أن يعلن سره فلم يجد غير مها، لا لأنها تكره أمها، ولكن لأنها الأقرب اليه، صحيح أنه يسعد بالفضفضة معها كابنة، ولكنه لا يستطيع سماع ما يشبه قصتها، مد يده ليأخذها في حضنه، فاستجابت له في تنهدة، صحيح هو والدها، ولكنها تميل إليه أكثر من زوجها.
دنا بكفه ليلمس منحني الكتف، ثم حوم حول النهدين اللذين ازدادا خصوبة.
- حاولي مرة أخري يا مها.
- لا أستطيع يا أبي.
وتحدث معها طويلا في محاولة لاقناعها ولكنها رفضت كل الحلول التي قدمها، وآمن بأن الحياة في بيت الزوج صارت مستحيلة.
فقام زاهدا، دون غضب، شد الباب وراءه، ونام إلي جوار زوجه، بقرف، وعقله هناك مع أم كريم التي تمنحه بهجة العمر، وتمده بشهوة لا نفاد لها، ظل يقارن فترة بين زمنه التعيس ويأس ابنته مع زوجها حتي غلبه النوم، فاستجاب له.
4
بعد لقائهما علي رصيف المحطة، هبطا إلي موقف السيارات، فالقطار لا يصلح لرحلتهما، لأن خطوطه في قلب المزارع، تنأي بنفسها عن آخر طريق للشرق، قليل من الأراضي المستصلحة، وكثير من الرمال التي تنتشر علي كثبانها وحدات للجيش وتقام علي سفوحها مصانع جديدة، هي واجهة لصناعات غربية ويابانية، والطريق يسمح لهما بدخول القاهرة عند حي المطرية، هنا سيكون المستقر لهما إلي حين، كان مترددا في استخدامها لأنها مغلقة ومهجورة، تفتقد النظافة التي تليق بإقامتها فهي غير نظيفة بالمرة، كان والده قد أجرها له حينما كان طالبا بجامعة عين شمس بعد التخرج رفض التفريط فيها، ربما استطاع استعادة ترميمها وتنظيفها، ورفع القاذورات من جوانبها، ليتمكن من الارتباط بابنة الحلال المناسبة، أو الإقامة بين جدرانها وها هو الوقت المناسب لها، ستكفي بالغرض، وكان يكتفي باللقاء بها، في حديقة بيته، أو سطح بيتها حين تأمن لغياب الأم والأب، وحيثما اتفق، مما تتيحه الفرصة المختلسة.
صعدا إلي عربة (الميكروباس) ال (تيوتا) وتخيرا المقعد الأخير الذي لا يتسع إلا لشخصين.
وقف السائق في مدخل الموقف، ينادي علي رحلته حتي جمع الأحد عشر راكبا، ضغط علي دواسة البنزين بعد أن وضع شريط القارئ السعودي الممل، إن صوته يحيي في ذاكرته طنين الذباب حول فتحات المقابر.
- توكلنا عليه، الفاتحة للنبي يا إخواننا.
ورطبت الفاتحة ألسنة الركاب الذين رددوها همسا.
كانت السيارة تطير فوق الأسفلت بخفة الريشة يستعرض السائق قدراته، في الاقتحام والكر والفر حول سائقي الميكروباس من زملائه القادمين من مدن أخري.
الترتيل، والصوت الكئيب للقارئ، تغلبا علي مشاعرهما، فجمدت جذوة الشهوة المتقدة. فمال برأسه نحو الزجاج الخلفي، ليكمل نومه، فقد قضي الليل مع الأصدقاء لتدبير خطة بديل، فعاطف النذل بدٌّل رأيه، عند نهاية السهرة.
- خالد .. لا أستطيع أن أتيح لك الفرصة التي طلبتها، فالأمر ليس بالسهولة التي تتصورها.
- لقد وعدتني يا عاطف.
- حصل، لكني لا أستطيع، ولا أريد القيام بهذا الدور.
كان يقفان في مدخل (البلوك) بعد أن فارقتهما جماعة السهرة.
- إنك تفتقد النخوة مع الأصدقاء.
- سمها ما شئت.
- وعد الحر دين يا عاطف.
- أنا لست حرا. لي جدة تقيم معي، ولي جيران لا تخفي عنهم خافية.
- وأين الجدعنة، والشهامة، كم من رسالة كتبتها إلي حبيبتك؟
- أتعيرني؟
- وأبصق في وجهك أيضا.
- الله يسامحك.
شجعه هذا علي دفعه، نحو الدرجات القليلة للدور الأرضي، فسقط عاطف علي ظهره، فلكثرة ما تناول من بانجو، لم تعد لديه القدرة علي المقاومة، وظل لفترة طويلة يجاهد عقله في استيعاب ما حدث، وخالد فارق المكان عائدا إلي بيته، في انتظار موعدها، لم تعد هناك فرصة للتراجع، ألقي نظرة علي البيت، فوجد الأم مستغرقة في نومها، وخادمتها العجوز، فردت السجادة الصغيرة لتؤدي صلاة الفجر، فانسحب بهدوء، يسير ببطء من شارع إلي شارع، محلات البرجين غلقت أبوابها، واطفئت الأضواء البهيجة، مر علي كثير من تجار الفاكهة، يفترشون الأرض أمام بضاعتهم، ورأي النور الشحيح لبائع الفول والطعمية، حين دنا منه امتلأت أذناه بضجيج الماكينة التي تطحن حبات الفول المبلولة مختلطة بالبصل والكرات والكزبرة، اشتهي الساندوتش الأول، فالزيت غير مستعمل ألقي نظرة عليه، فوجد الصينية الكبيرة السوداء زيتها علي نار وابور قوي، والرجل وقف خلفها، يكور العجين الطازج ويلقي به في الزيت المغلي، ثم صعد درجات المحطة، وجلس علي نفس الكرسي الذي التقيا عليه البارحة.
وفض ورقات الصحف، ليسحب منها ساندوتش الصباح الشهي، وكان يلقي النظرة من حين إلي آخر متوقعا قدومها في الموعد المحدد.
أخيرا رأي قوامها المثير، بخصوبة لا تنتمي إليه، كانت تعبر قضبان السكة الحديد بحذر، وترقب التحويلة الأرضية حتي لا تقبض علي قدمها.
جلست بهدوء إلي جواره، وهي تخفي وجهها في طرحة سوداء بلون كحل عينيها.
- كم أنت جميلة يا حبيبتي؟
- أنت الأجمل.
- كيف قضيت ليلتك؟
واستعادت محاولات الأب في اقناعها، فلم يفلح في مسعاه، قام عنها وهو غاضب، بعد أن قلب كل شلو من جسدها.
هل يريد إبقاء الأمر علي ما هو عليه، ليصل إلي أغراضه، عند الزيارة إليها، لا يخرج من الشقة، يمدد جسده المكشوف أمامها.
- رحلت إليك للعلاج.
- كيف يا أبي؟
- يرتاح الجسد بلمسك إياه، وأنا اعتدت علي ذلك.
- ولماذا لا تذهب إلي صاحبتك أم كريم.
- مع أم كريم الأمر مختلف، فهناك الشهوة التي تنعش شبابي.
- ولماذا لا تطلب هذا من أمي؟
- ما بيني وبين أمك انتهي من زمان.
- في الخفاء هي لا تريدني، وأنا لا أريدها، ولكننا نحفظ الود، بسبب العشرة الطويلة.
وتركت وحدها علي سرير طفولتها، يشملها ظلام خفيف، نسمة هواء لطيفة تتسرب من خصاص النافذة، تأتي الفكرة وتذهب، تحاول إقناع نفسها بالاستمرار معه، فهناك طفل برئ، تضمه أحشاؤها، منسوب إليه في النهاية، ما ذنبه، ولكن خالد يأخذها إلي عالم آخر، لا تملك تجاهه تبديلا، إنها مجذوبة إليه بكل ذرة من أعضائها، هو العليم بها، والعارف لكيفية التعامل معها. هناك فرق، بين الإجبار والاختيار، في بيت الزوجية الذي لم تختره، ولم يستشرها أحد في مدي قابليتها له. "أمر مختلف في اختياري لمن يتعشقه قلبي ويمتع عيني بمشاهدة عريه الأليف، برائحته الطبيعية التي تنهض الرغبة من عمقها".
وكان القرار حاسما لا رجعة فيه، سأذهب معه، ولو لآخر نقطة من الدنيا الواسعة، وليحدث ما يحدث، أبي الذي يلومني، ويرجوني العودة إليه، حفاظا علي مظهر اجتماعي زائف، واقع في نفس البئر التي لا قرار لها، إن أمي توارت من حياته، وصارت أم كريم هي بؤرة الوجود.
لماذا لا تسمحون لي بما تتيحونه لأنفسكم؟
وقامت في الصباح الباكر، بيضاء القلب، طاهرة من كل دنس، ومن كل شعور بالخطيئة.
- سأذهب مع حبيبي إلي أقصي حدود الشمس أصل الحياة، وجوهر الوجود.
وفي الصباح، ارتدت ثوبها الأسود وغطت شعرها ووجهها، وكتبت الورقة (آسفة يا أبي مضطرة للرحيل، أو الانتحار) وضعتها علي زجاج الكومودينو، ورفعت حقيبة صغيرة، بها غيار داخلي، وجلباب منزلي خفيف، مررت أصبع (الروج) علي شفتين دسمتين، ورسمت عينا فرعونية علي الكحل الأزلي.
كان السائق قد بدل القارئ بقارئ آخر. فصاح فيه خالد متوترا.
- يا أخي طريقة هذا المقرئ تزعجني.
- هذه هي القراءة الصحيحة يا أستاذ.
- المهم حلاوة الصوت.
- ليس هناك أفضل من السديسي قارئ المسجد الحرام.
- إن مصر تفيض بالأصوات الجميلة، أتعرف أن قرائنا هم من علموا المسلمين صحة القراءة.
- الوضع تغير يا أستاذ وخضوعا لأمر سعادتك. سنرفع الشريط، لتسمع شيئا يفيدك في دنياك.
وانطلق صوت غليظ معاد، يكره الدنيا ومن عليها يتحدث عن عذاب القبر، وماذا سيحدث للعيون الجميلة والشفاه المشتهاة، والشعر المنساب الذي لا يستره حجاب. سيأتي عيه الدور جميعا، إن المفاتن هي غذاء الدود في ظلمة القبر.
- ربنا يقرفك.
- إن هؤلاء الصبية جعلونا نكره حياتنا بمسراتها القليلة.
- حاولي نسيان الأمر برمته.
وقطعت السيارة الطريق المسفلت العريض، فبدت علي يساره ترعة، نمت علي جوانبها الكثير من أشجار الفاكهة، والقليل من محاصيل الأرض.
- أين نحن الآن يا خالد؟
- هذه بلبيس، عاصمة الشرقية في الأزمنة العتيقة.
- والترعة؟
- اسمها الحلوة.
- حلوة؟
- حفرت قبل القناة ليشرب منها عمال الحفر، وتمد الإسماعيلية وبورسعيد وما بينهما بالماء.
- ومن الذي قام بحفرها؟
- أجدادنا الفلاحون بأمر من ديليسبس، وبموافقة الخديو سعيد.
- كانت صحراء قاحلة، اليوم كما ترين الزراعة تنتشر حول واديها، تبدأ من شبرا وتنتهي في بورسعيد.
- مشوار طويل. أتعرف كأنني رأيت هذا المشهد في المنام.
- القناة أطول منها، تربط بين البحر الأحمر والأبيض.
- ياه ..
- كانت السبب في احتلال مصر، وأممها عبد الناصر
عام 56.
- اعرف هذا.
مرت السيارة أمام أبو زعبل، فسألت عنه مها.
- ما هذا المكان الكئيب؟
- سجن أبو زعبل.
- سمعت به.
- ثم مرت بالقرب من شعلة نار، تقوم علي عمود مرتفع، جذوة ناره لا تنقطع، تظل علي اتقادها، ليل نهار، وعلي مدار العام، أرادت مها السؤال عنها، وفضلت السكوت، فقدر أنه يذهب في غفوة، استجاب لها بهدوء.
- ياربي بالضبط كما رأيت في المنام رغم أنني لم أزر المكان من قبل.
بدل السائق الشريط، وادخل آخر، يشبه في صوته الأول. ضغطت علي أعصابها لما رأت يد السائق ترفع الزر، فيتضاعف الصوت، فقد لمح في المرآة العكسية، صمتها، وشعر أنها لن تعترض.
ثم ظهرت المباني من بعيد، دخلوا حيا، له شوارع ضيقة، وعمارات كالحة، وزحام من البشر، يتوزعون ما بين الشوارع، فاحت بالفجيعة "علي العموم لن أقيم فيه، يومان أو ثلاثة، ثم تبحث الأمر مع خالد، بعد عودتهما إلي البلدة، ولتواجه الأسرة، وليكن ما يكون".
لكزت خالد في جنبه، فانتبه في الحال، قام بعينين يبك الدم فيهما، وصاح وهو يتهيأ للنزول.
- السهرة كانت ثقيلة؟
- يعني.
استلما شارعا ضيقا، تتوزع الزبالة في أركانه، يقطعان الطريق بحذر، حتي لا يصطدما بسيارة (توك توك) أو بطفل يطارد آخر في شقاوة، يخشيان زجره، حتي لا يشتبكا مع أحد من أهله. فهم في النهاية مجرد غريبين، لا يعرفهما أحد.
ودخل شقة قديمة جدا، تآكلت جدرانها المدهونة بجير لم يقم أحد بتجديده منذ استلامه إياها. وأبواب تفيض بالقذارة، فاسودت جوانبها. فارغة، ليس بها غير حجرة، وصالة فرشت بسجادة تناسلت حوافها وحجرة أخري تضم سريرا، وطاولة لها كرسي وحيد، ولا شئ غير ذلك.
صاحت بهول: ياه .. عايزة عمال البلدية.
- المهم أننا لن نقيم فيها إلي الأبد، مجرد يومين أو ثلاثة لا غير.
- سأحاول تنظيف مكان يفي بالحاجة.
- وما هذه الحاجة؟
- يا قليل الأدب، وضربته علي ظاهر كفه بدلع.
- أعد مكانا (كل شي إن كان)، وركز علي الفراش، ضرب أركانه بفوطة قديمة، فهاج التراب الراكد.
- يكفي هذا .. فترابه يدفعني للربو.
- يعني مريضة بصدرك.
- يعني.
- لم أشعر بهذا أبدا.
- أحاول إخفاءه عنك .. حتي لا تكرهني.
- أنتظري هنا لبعض الوقت، لأحضر طعاما يكفي لمدة معقولة.
حين عاد وجدها في ثياب البيت التي زادها جمالا.
- ما هذا يا حبيبتي؟
- بعض ما عندكم.
- ولكني لم أحضر ملابس داخلية مثلك.
- الجو معقول .. ويمكنك أن تظل بهما ولا تخشي النظر اليك.
- ليتك تفعلين مثلي.
- عند اللزوم

ليست هناك تعليقات: